بقلم: يحيى مصطفى كامل /كاتب مصري: لئن كان سقراط، ذلك الرجل الطيب، مفرط البساطة، أحد شهداء الفلسفة الأوائل (وربما أهمهم)، ذو البال الطويل على الجدل، ارتأى في الحديث مرآةً للذات، يُكسب الشخص سمتاً حقيقياً بما يُعبر عن مكنون ذاته، وفق الصياغة الشهيرة «تكلم حتى أراك» فإن السيسي للأمانة لم يُقصر ولم يبخل يوماً، مذ ركب السلطة، في الإغداق علينا بظهوره وأحاديثه، فصرنا نراه كثيراً (ربما أكثر مما نحب ونتحمل) ونغرق في طوفان أحاديثه وتصريحاته، في شتى المناسبات، من أتفهها إلى أجلها؛ ليس ثمة مبالغة قط في القول بأن منظره جالساً في الصف الأمامي وسط رجاله، ممسكاً الميكروفون ( أو «الحديدة» وفق التعبير الدارج) مندمجاً منسجماً مع نفسه، متدفقاً بفيضٍ من الآراء والانطباعات كيفما اتفق وعنَّ له في لحظتها وفق سيولةٍ فكرية ولفظية تدهش أكثر من أي شيء، هذا المنظر صار مشهداً مألوفاً، وإنه وإن كان قد فقد جدته، وربما جانبه الفكاهي أحياناً، إلا أنه صار «وجبةً أساسية»، يُفتقد حين يغيب فترةً، بل يفتح الباب للتكهنات (التي كثيراً ما تَصْدُرُ عن، وتَحكُمُها الأماني) عن مكروهٍ أو مرضٍ قد أقعده، أو عن خطرٍ أو تهديدٍ يتربص به، فحجبه استجابةً إلى نُصح وإرشادات أجهزة أمنه وحمايته.
لقد تكلم الرجل كثيراً بما كان كفيلاً لأن نعرف ونرى أي شخصٍ غيره، إعمالاً بنصيحة سقراط، الذي أكاد أجزم أنه لم ينمُ إليه من فكره وفلسفته شيء (ولا فكر أو فلسفة غيره في حقيقة الأمر)، إلا أنني عن نفسي وللأمانة، لا أستطيع أن أتكلم بثقةٍ عن ما يدور في رأسه؛ في البداية ظننت أن مرد ذلك قصور في الفهم، أو انعدام في التركيز لديّ، إلا أنني بعد تدبرٌ وتدقيقٍ بت أميل إلى القناعة بأن ذلك ربما يكون راجعاً إلى تفككٍ عميقٍ وأصيلٍ في خطابه، يتسق مع تفككٍ وهلاميةٍ في أفكاره.
يتعامل السيسي مع مصر من منطلق «أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون» لقد ملكها بقوة السلاح، فهي من حقه وليس لأحدٍ أن ينازعه فيها
من الثابت أنه ليس لدى السيسي أيديولوجيا سياسية، كالتي كانت للأحزاب والجماعات العقائدية، التي عرفت منطقتنا عدداً لا بأس به منها، في مقدمتهم ربما القوميون العرب والبعثيون والشيوعيون، بما تعنيه من تصورٍ للتاريخ والمجتمع والهوية، ومن ثم موقف وانحياز بُذل في سبيل تبنيها مجهودا فكريا وتربية سياسية، لكن ذلك لا يعني البتة أنه لا يصدر عن أفكارٍ ما وانحيازاتٍ أصيلة، غاية ما هنالك أنها مشتتة وغائمة، هي «شراذم» أفكار وبقايا جعبٍ كثيرة، تعكس خيوطاً عديدة ترسبت عبر قرون الانحطاط والاضمحلال، بميراثها من القمع والخوف والأوبئة والمجاعات والسلبية والحلول الفردية، والتنكب عن المسؤولية وتقديس الحلول الفردية، وصنمية الدولة والحاكم، فهي تحاكي في عالم الأفكار «الأوباش» في عالم البشر.. هي «أوباش» أفكارٍ أو «أفكارٌ وبشية» وضيعة وسليلة الهزيمة واستبطان القمع.
إلا أنها أفكارٌ على أية حال، ومهما كانت رثةً ومهلهلة، إلا أنه لا بد من التعامل معها بجدية وتحليلها، لاسيما لو كانت أفكار الطاغية الحاكم بأمره وتمثل أفكار الطبقة الحاكمة، ولئن كانت هزيلةً مفلسة، فليس ذلك سوى لأن الطبقة بدورها هزيلةٌ مفلسة.
ولعل أكثر ما استرعى انتباهي هذه الأيام من درر السيسي وحكمه السنية هو مصر تحديداً، فقد تردد في ذهني فجأةً صوته وشكله وهو يزج بها في شتى الجمل والعبارات، فهو تارةً «يُشخصِنُها» ويؤكد أنه لن يسمح لأحدٍ أن يقترب منها، ولعل أفقع الأمثلة هو حين صورها امرأةً متهتكة لعوب عرَّت ظهرها وكشفت كتفيها أو ما أشبه، وتارةً يتعامل معها ككيانٍ اعتباري أو شيءٍ، حين نهرنا عن نهمنا الذي يدفعنا لأكلها. فما الذي تعنيه مصر تحديداً بالنسبة لمصر؟ ما هي «مصر» التي يتحدث عنها؟ على الأغلب هو لم يسأل نفسه هذا السؤال ويقيناً، على ضوء كلامه، فإن مصر ليست مجرد رقعةٍ جغرافية حددت بعض صفاتها وتكفل التاريخ بما فيه من تفاعلاتٍ وصداماتٍ بشرية بصياغة أفكارها وهويتها.. لا، فهذه المفاهيم لا تخطر على ذهن السيسي واعتباراتٍ كالتاريخ والحضارة، لا تعني له شيئاً على الإطلاق.
إن مصر بالنسبة للسيسي هي الجائزة الكبرى، المِلكية الأوسع والبقرة الحلوب، موضوع الصراع.. هو، الذي أعادنا لعصور الحكم بالحق الإلهي، يتعامل معها من منطلق «أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون» لقد ملكها وغلب عليها بقوة السلاح، فهي من حقه وليس لأحدٍ أن ينازعه فيها. لذا فإن مشاكل مصر في ذهن السيسي تنبع أو تنغرس في مفهوم الصراع على ملكية أو مقتنى ثمين، والملكية حصرية ومطلقة، لا تسقط إلا بالدم؛ ذلك المفهوم في تضادٍ تماماً مع أي صيغٍ توافقية، أو تصوراتٍ بالمشاركة والتعايش والمحاصصة، لذا فهو وإن لم يصرح بذلك متسقٌ مع ذاته تماماً حين يرى في الحريات والمشاركة السياسية خراباً، بل وافتئاتاً وجوراً على حق الملكية المقدس، والهرمية والتراتبية التي هي من طبيعة الأشياء وفق إرادة الله وحكمته وتقديره، الوحيد الذي من حقه أن يحاسبه، كما أكد لنا مراراً، وعلى أية حالٍ فهو ليس في حاجة لانتظار ذلك، فثمة حوارٌ بينهما كما أكد أيضاً. المهم هنا أنه وإن شكل أقصى الطيف في هذه التصورات المضمرة والقناعات الدفينة، فإن قطاعاتٍ عديدة من البورجوازية المصرية تشاركه هذه التصورات، والاثنان يتعاملان مع الطبقات الأدنى منهما والفقراء والمهمشين لا كجزءٍ من المجتمع، باعتبارهم بشرا، تسببت في أوضاعهم جملةٌ من الظروف والمحددات الاجتماعية والاقتصادية بتجلياتها الأوسع، ولم تزل لهم احتياجات وحقوق، بل لا يرون فيهم سوى عبءٍ يستنزف مصر، تلك التي اتفقنا على أنها ملكية خاصة أو «عزبة»، وبلوى لا بد من التعامل معها والتصرف فيها بأقل الأضرار والتكلفة.
في ضوء ذلك نفهم ما قد يتجلى أحياناً في تصريحاته وتعبيراته من الإحباط، فالضغوط والمطالب لا تمثل بالنسبة له إلا منازعة في ملكيته، كما لو كان الناس زوجة أبٍ تنازعه في ميراثه الشرعي!
هو يعلم أو وصله كلامٌ عن الديمقراطية والتمثيل السياسي إلخ، لكنه شأنه في ذلك شأن الكثيرين في طبقته وفي منطقتنا الأوسع، لا يرى فيها سوى ألعابٍ كلامية يضحك بها حكام الغرب على الناس وابتلونا بتصديرها إلينا. لقد صمت السيسي كثيراً وطويلاً كأي رجلٍ ضئيل، لكنه نتيجة التآمر ومفارقات التاريخ في لحظةٍ حفلت بالفوضى والتخبط والعبث، وجد نفسه وقد سقطت في حجره تلك الجائزة ومنجم الذهب ذاك، فلعبت السلطة في رأسه (خاصةً في بلدٍ له ذلك الميراث من تقديس الحاكم وتأليهه)، فهو يشعر ويؤمن بأن ما في يده، مصر، حقٌ ليس لأحد أن ينازعه فيه وسيحارب دونه. إن الأيام المقبلة حافلةٌ في رأيي، وما لم تُنزع تماماً كل أدوت العنف من يد السيسي، كأن يتمرد عليه رجاله ويضحون به، فإنه لن يتورع عن إطلاق كل ما لديه منها حفاظاً على «مصره»، ملكيته الخاصة وحقه الإلهي.
كاتب مصري