بقلم : أحمدو الوديعة*:
يوشك انقلاب النيجر أن يُدخل منطقة الساحل الإفريقي في معادلة إقليمية ودولية جديدة. فقد تحولت الأزمة الداخلية إلى صراع ذي أبعاد خارجية يتغذى على التنافس المستعر بين القوى الدولية. ولا يبدو أن التهديد بالتدخل العسكري سيكون حلا لوضع معقد تختلف حوله مواقف وأجندات الأطراف المعنية.
-------------------------
تنويه: نقلا عن مركز الجزيرة للدراسات
-------------------------
مقدمة
ليس انقلاب النيجر، الذي أطاح بالرئيس المنتخب، محمد بازوم، قبل ساعات من انطلاق القمة الروسية-الإفريقية بسانت بطرسبرغ، أول الانقلابات في منطقة الساحل خلال السنوات الأخيرة. والخشية قائمة، وتعززها المؤشرات، من أنه لن يكون الأخير في منطقة تلاقت فيها عوامل الفشل الداخلي بجواذب التدخل الخارجي. وقد بات النيجر ساحة مواجهة مفتوحة على أكثر من صعيد، تتعدد فيها العناوين وتتنافس الشعارات والأجندات.
بين أجيال الاستعمار
يتنافس على النيجر مستعمر قديم يتقلص الساحل تحت قدميه بما رحب، ومبشر جديد بالتحرير من الإمبريالية. وفي سيرة المبشر الجديد وصورته الشاهدة في ساحات عديدة من هذه المنافسة، ما يدفع للتشكيك في حقيقة اختلافه عن المستعمر القديم في كل ما يقدم نفسه بديلًا عنه، بدءًا بالنزوع الإمبريالي وصولًا إلى الهيمنة على ما فوق الأرض وتحتها من ثروات طبيعية. فهذه الثروات هي بيت النزال في منطقة محورية، في قارة هي أحد أقطاب المستقبل وشفرة بوتين لفك العزلة عن موسكو(1). من جهة أخرى، ووفق تقديرات الولايات المتحدة الأميركية، يعد النيجر موقعًا مهما لا ينبغي أن يسقط(2).
هكذا يبدو النيجر، البلد الإفريقي الذي تعود العالم على متابعة أخباره في زاوية مخاطر المجاعة خلال السنوات الماضية، في طريقه ليصبح عنوانًا رئيسيًّا للتنافس بين أجيال مختلفة من الاستعمار، وهو بصدد التحول إلى ساحة أخرى من ساحات الحرب الكونية الباردة، التي تدور رحاها على أكثر من صعيد في مجالات الاقتصاد والسياسة والتقنية. وكذلك في ميادين الحرب التقليدية، على جبهات أبرزها وأكثرها سخونة أوكرانيا التي تتعرض لغزو روسي منذ سنة ونصف السنة.
سياق الانقلاب
جاء انقلاب النيجر في أعقاب موجة ثانية من الانقلابات في إفريقيا بعد مرحلة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية تمكن خلالها عدد من دول القارة من الانتقال إلى الديمقراطية. قبل ذلك، كانت إفريقيا قد مرَّت بموجة أولى من الانقلابات شملت عددًا كبيرًا من دولها. ويمكن توصيف هذه المراحل على النحو التالي:
- ثورة الانقلابات: في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، كانت الانقلابات في إفريقيا خبرًا عاديًّا وحالة عامة لم تنج منها إلا بعض البلدان التي تعد على أصابع اليد الواحدة. ففي منطقة الساحل والغرب الإفريقي، على سبيل المثال، كان السنغال، ولا يزال، البلد الوحيد الذي لم يعرف انقلابًا عسكريًّا. وظل هذا البلد نقطة مضيئة في منطقة شهدت أنظمتها السياسية الكثير من الاضطراب ولم يعرف مسار الحكامة فيها الاستقرار إلا قليلًا. ولم تكن فرنسا، بشكل خاص، بمنأى عن هذه الانقلابات، وكانت أصابع باريس حاضرة في أغلبها، تحضيرًا وتنظيمًا أو مباركة ودعمًا.
- مرحلة الانتقال الديمقراطي المتعثر: بدأت هذه المرحلة مع بداية التسعينات، وقد حاولت فرنسا دعم هذا التوجه بشكل رسمي. وقد تجلى ذلك الدعم في مؤتمر لابول الذي عقده الرئيس الفرنسي الأسبق، فرانسوا ميتران، منتصف العام 1990، في مدينة "لابول إسكوبلاك" بالغرب الفرنسي، وحضره عدد من قادة الدول الإفريقية. وكانت رسالة ميتران الأساسية آنذاك دفع القادة الأفارقة لتبني أنظمة سياسية تقوم على التعددية الحزبية وتفتح الباب أمام الانتخابات التنافسية. وبلغت تلك المرحلة ذروتها في مطلع الألفية حيث نجح عدد من بلدان القارة في إنجاز انتقالات ديمقراطية ناجحة، تُوجت بوضع ترسانة قانونية تلزم الأطر القارية والإقليمية برفض تغيير الأنظمة عن طريق الانقلابات، وتفرض عقوبات تلقائية على المتورطين فيها.
- الموجة الثانية من الانقلابات: بعد مرحلة الانتقال الديمقراطي، أو ما عُرف بـ"الربيع الإفريقي"، سادت حالة من الإحباط بسبب فشل البلدان التي تحولت إلى الديمقراطية في تحقيق أي من التطلعات الأساسية لشعوب الساحل، خاصة على الصعيدين التنموي والأمني. أدى ذلك الفشل إلى سلسلة من الانقلابات، انطلقت من مالي، التي عرفت ثلاثة انقلابات خلال عشر سنوات. ثم تمددت إلى غينيا، التي شهدت انقلابين خلال نفس الفترة. ووصلت إلى بوركينافاسو، التي راوحت خلال العشرية الماضية بين حالة صُنِّفت ثورة وبداية ربيع إفريقي أطاحت برئيسها الأسبق، بليز كامباوري، وحالتين انقلابيتين أوصلت أحدثهما الرئيس الحالي، النقيب الشاب، إبراهيم تراوري، إلى قصر الحكم في واغادوغو، وهو يقود اليوم واحدة من أقوى حالات التمرد في وجه المستعمر القديم في منطقة الساحل والغرب الإفريقي.
أطراف المواجهة في النيجر
تبدو المواجهة شبه حتمية في النيجر بين طرفين أحدهما يتمسك بشرعيته، ويتمسك الآخر بكرسي استطاع انتزاعه قبل أيام قليلة. وتدل سرعة الاحتشاد وصرامة اللغة المستخدمة على شعور طرفي المواجهة بجدية الأزمة وخطورة تأثيراتها الإستراتيجية. ففي المعسكر الأول، يقف قادة الانقلاب الجدد مدعومين برفاق التمرد على قواعد التبعية للغرب عمومًا ولفرنسا تحديدًا، في كل من بوركينافاسو ومالي وغينيا كوناكري. وفي المعسكر المقابل، يقف الرئيس المخلوع، محمد بازوم، المدعوم بشكل استثنائي من المجموعتين، الإقليمية والدولية. وقد حددت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا المعروفة اختصارًا بـ"إيكواس" (ECOWAS)، مهلة تنتهي يوم الأحد، السادس من أغسطس/آب 2023. وقالت إنها ستقوم بعدها بالتدخل العسكري لإفشال الانقلاب في حال رفض الانقلابيون التخلي عن السلطة وإعادة الرئيس بازوم لسدة الحكم. ويحظى موقف مجموعة إيكواس بدعم قوي وصريح من الدول الغربية، وفي مقدمتها فرنسا. وكانت باريس قد أكملت إجلاء رعاياها، إضافة إلى مئات من رعايا دول أوروبية أخرى من نيامي، قبل فجر الخميس 3 أغسطس/آب، تحسبًا لأعمال معادية في ذكرى استقلال النيجر عن فرنسا قبل 63 عامًا.
ومع تزايد مؤشرات المواجهة بين طرفي الصراع وتعدد مجالاتها سياسيًّا وأمنيًّا ودبلوماسيًّا، ليس من المتوقع أن يكون الحسم بين المعسكرين سهلًا ولا سريعًا. وذلك بناء على معطيات الواقع ومتغيرات ما بعد الإطاحة بالرئيس بازوم. فالطرف الداعم للانقلاب يعتمد على سند داخلي متصاعد يتغذى على مزيج من الشعور القومي والوطني. وكان وصول رئيس ينتمي لمجموعة قبلية صغيرة لرئاسة بلد مثل النيجر، يكفي وحده لتحفيز الشعور القومي ضده. أما حين تظهر قوى خارجية مجاهرة بإعلان دعمه والسعي لإعادته للحكم ولو باستخدام القوة، فتلك أفضل الوصفات ليبلغ الحماس القومي والوطني مداه، وليكون أحسن وسيلة يمكن للانقلابيين استخدامها في تحريك الغضب الجماهيري.
في المقابل، تعلن دول وازنة في الجوار، أهمها الجزائر ومالي، معارضتها التدخل العسكري. فالجزائر أعلنت عدة مواقف منذ الانقلاب، تراوحت بين التصريح وإصدار بيان. ومن آخر هذه المواقف "تمسكها العميق" بالعودة إلى النظام الدستوري في النيجر و"دعمها" للرئيس بازوم "رئيسًا شرعيًّا"، وتحذيرها من "نوايا التدخل العسكري الأجنبي"(3). أما دول مالي وبوركينافاسو وغينيا كوناكري فقد أعلنت في بيان مشترك أن أي حرب على النيجر تُعد حربًا عليها(4). ولتأكيد هذا الموقف، استقبل رئيس المجلس العسكري الحاكم في باماكو، عاصمي كويتا، قادة الانقلاب في النيجر(5). حدث ذلك الاستقبال بالتزامن مع اجتماع قادة أركان الجيش في منظمة الإيكواس لوضع اللمسات الأخيرة على ما يُعتقد أنه خطة للتدخل العسكري في النيجر. ويبدو أن قرار التدخل، الذي تحفظت عليه قوى دولية مثل روسيا(6) والصين(7) وإيطاليا(8)، قد اتخذ بعد ساعات قليلة من حدوث الانقلاب.
وسط هذ الانقسام في المواقف الإقليمية والدولية، تبدو مجموعة الإيكواس مصممة على المضي في خطتها للتدخل العسكري في النيجر علَّها تتمكن من معاقبة قادة الانقلاب وإعادة الرئيس بازوم إلى السلطة، وبالتالي ردع أي محاولة انقلابية في المستقبل. ما سيحسم الأمر ويحدد اتجاه الخطوة القادمة داخل المجموعة هو موقف نيجيريا، كبرى دول الغرب الإفريقي. فبينما كان الرئيس السابق، محمدو بخاري، أقل حماسًا لمواجهة انقلابات مالي وبوركينا وغينيا، نظرًا لظروفه المعقدة بما في ذلك وضعه الصحي وانتماؤه المجتمعي وتموقعه الاستراتيجي، يبدو أن وضع الرئيس الجديد، بولا أحمد تينوبو، جعله رأس الحربة في مواجهة انقلابيي النيجر. فقد أقدمت نيجيريا على تطبيق إجراءات عقابية ضد جارتها النيجر، تضمنت إغلاق الحدود وقطع الكهرباء، واعتبر رئيسها أن استمرار اعتقال الرئيس بازوم إهانة لكل رؤساء المنطقة. من جهتها، أعلنت السنغال استعدادها للمشاركة في العملية العسكرية(9)، وهو ما يمكن اعتباره ردًّا على البيان المشترك لمحور دول الانقلاب الذي يضم كُلًّا من مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري. فهذا الثلاثي يُعد خصمًا لداكار ونظامها الذي يواجه هو الآخر أزمات سياسية داخلية متعددة.
ودون الموقف السنغالي حدة، سُجل موقف لافت لموريتانيا، التي تتولى الرئاسة الدورية لمجموعة دول الخمس بالساحل. فقد عبَّرت نواكشوط في بيانين خلال أسبوع واحد عن رفضها للانقلاب ومعارضتها الوصول إلى السلطة بشكل غيري دستوري. فهي، وإن كانت غير معنية بالعملية العسكرية المحتملة، كونها ليست عضوًا في مجموعة الإيكواس، لكنها في المعسكر الداعم للرئيس المخلوع، محمد بازوم. وقد اختار رئيسها باريس محطة له خلال رحلة عودته من زيارة للصين، كما أعلن الناطق باسم حكومتها، الناني شروقة، عن استعداد بلاده للنظر في إمكانية المشاركة في العملية العسكرية في حال وصلها طلب بذلك(10).
النيجر: أوكرانيا الغرب الافريقي
مع أن قادة الانقلاب في نيامي، على خلاف "أسلافهم" في مالي وغينيا وبوركينا، من الصف الأول في الجيش النيجري، وليست لهم عداوة معلنة مع فرنسا وحضورها في المنطقة، إلا أن تركيزهم في "البيان رقم واحد" على البعد الأمني الذي أخذ وقتًا من كلمة قائد الانقلاب، أعطى مؤشرًا قويًّا منذ البداية على أن مستقبل العلاقة بباريس سيكون قاتمًا. وقد تعزز هذا الموقف بسلسلة من القرارات والإجراءات التي اتخذها الانقلابيون مثل تعليق اتفاقيات عسكرية مع فرنسا(11)، وقطع بث إذاعة فرنسا الدولية وقناة "فرنسا 24". جاءت هذه الإجراءات وسط تحركات شعبية مناهضة لفرنسا شهدت مهاجمة مناصري الانقلاب مباني السفارة الفرنسية في نيامي، ورفعهم أعلام روسيا خلال المظاهرات التي كتبت فيها شعارات بالروسية تستنجد ببوتين لمواجهة "الإمبريالية".
أما روسيا فقد حرصت منذ الساعات والأيام التي تلت الانقلاب على الامتناع عن إظهار أي موقف داعم للإطاحة ببازوم، واكتفت بإعلان مواقف عامة عبرت فيها عن وقوفها مع الشرعية والدعوة لضبط النفس. لكن المعطيات الجيوستراتيجية الصلبة، وسياق المنافسة المتصاعدة بين روسيا وفرنسا في إفريقيا، تُرجحان تطور الموقف الروسي في اتجاه أكثر حسمًا. وإذا تأكدت الأنباء عن طلب الانقلابيين في نيامي دعمًا عسكريًّا من قوات فاغنر لمواجهة التدخل العسكري المحتمل(12)، فلا يُستبعد أن تتحول النيجر إلى بؤرة صراع دولي يجعل منها أوكرانيا الغرب الإفريقي.
فالبلد الساحلي الذي تعيش أغلب مدنه في الظلام الدامس، يضيء اليورانيوم القادم منه سماء مدن فرنسا التي مدَّدت تشغيل مفاعلاتها النووية برغم تعهدات قمم المناخ حتى تحد من آثار تدفق الغاز الروسي. والنيجر نقطة وصل أساسية في مسار عبور أنابيب النفط من نيجيريا إلى أوروبا عبر الجزائر، وهو المشروع الضخم الذي يراهن البلدان الإفريقيان الثريان بالطاقة على أن يمثل قفزة في نموهما، وتعتبره أوروبا شريان إنقاذ إستراتيجي من الاعتماد المفرط على الطاقة الروسية. كما أن النيجر يُعد النقطة الآمنة الأخيرة لقوات واشنطن وباريس في منطقة الساحل. وهذا ما لا يخفي المسؤولون الغربيون التعبير عنه بصوت مسموع؛ ما يعني أنهم سيدافعون عن استمرار هذا البلد مواليًا للغرب، باعتباره جزءًا أساسيًّا من منظومة أمنه الإستراتيجي.
خلاصة
بدأت الأزمة في النيجر غالبًا لأسباب داخلية، جوهرها تعثر عملية تبادل السلطة بين الرئيسين، محمد يوسوفو ومحمد بازوم، حين أراد بازوم ممارسة سلطاته كاملة، وبشكل خاص تعيين رجاله في المؤسسة العسكرية. ولكن هذه الخلافات تحولت سريعًا إلى أزمة كسر عظم بينه وبين الجيش، وانتهت بانقلاب عسكري في طريقه ليقلب موازين القوى في المنطقة كلها. وربما يستدرج الصراع الدائر بين روسيا والغرب إلى منطقة الساحل الإفريقي فيدخل طورًا جديدًا. ونظرًا لتعدد عوامل الاستقطاب الإقليمي وتداخلها، لا يُستبعد أن يتخذ هذا الطور شكل مواجهة عسكرية قد تتحول إلى حرب إقليمية مفتوحة شبيهة في شراستها وتنوع أسلحتها بما يجري على الأرض الأوكرانية. وإذا نجحت مجموعة الإيكواس، بدعم غربي، في تحرير بازوم من الأسر، سيتمكن هذا الأخير من لعب دور شبيه بدور الرئيس زيلينسكي. فجغرافية الساحل والصحراء عصية على الإخضاع والهيمنة على خلاف ما يظن الوافدون إليها من وراء المحيطات.
نبذة عن الكاتب
*أحمدو الوديعة: إعلامي وباحث متخصص في شؤون إفريقيا جنوب الصحراء.