أحمد مولود اكاه: تمتلك الشخصيات المتخصصة فرائد ومعلومات متميزة في مجالات اهتمامها، تظل تنمو مع الممارسة والمعايشة المستمرة للموضوعات محل الاهتمام، وتصبح هناك حالة من الاكتشاف والملاحظات التي تتصل بالقضايا من هنا وهناك صانعة محتوى مميزا يضاف إلى الإرث المعرفي العام بشأن هذه المواضيع، ومن أجمل ما تحظى به هذه الملحوظات والأفكار أن يتاح تشاركها مع الآخرين فتعمد هذه الشخصيات إلى كتابتها وإبرازها في ثوب قشيب ومن خلال مضمون يثري المادة العامة ويزيد من رقعة المحتوى، ولقد أسهم كتاب البروفيسور الأديب عبد الله الطيب عن الشاعر أبي الطيب إسهاما مميزا في هذا الباب، وجسّد هذا الدور من خلال ما أتاحه للقراء من الخلاصات والتفسيرات والتحليلات حول أبي الطيب وأفكاره ومشروعه الأدبي حيث تمرّس البروفيسور بأبي الطيب عظيم التمرس وخبره عن كثب لدرجة خوّلته النفوذ إلى غور ذهنية أبي الطيب والتخمين نيابة عنه للتنبؤ بالقرارات والمواقف التي كان يمكن أن يتخذها المتنبي لو طال به الزمن وسنحت له الأيام.
كتاب مع أبي الطيب
وهنا في هذا المنوال، يشير عبد الله الطيب من خلال كتابه "مع أبي الطيب" إلى أن المتنبي لو أنسئ له في أجله، لربما يمم صوب بلاد الأندلس مختبرا حظوظه هناك بعد ما أعوزه الوصول لأهدافه وتحقيق طموحه ومآربه، في ما سبقها من التطواف بالبقاع الأخرى، وما كان بذلك بدعا في هذا المسعى الذي دشّنه الأعشى من قبل للشعراء العرب يوم كان يشد الرحال يمنة ويسرة متخذا من الشعر "متجرا" كما قيل، وله البيت المفصح عن ذلك إذ قال:
وقد طفتُ للمال آفاقه .. دمشق وحمص وأورشلم
كذلك في شأن ما أورده من المتفرقات والملاحظات العامة التي يمكن اعتبارها هوامش حول حياة المتنبي، يرى عبد الله أن المتنبي تفاعل بإيجاب مع الحياة بمصر والثقافة المصرية ونمّ شعره عن جانب من هذا التناغم حيث يورد بيتيه:
وكل امرئ يولي الجميل محبب .. وكل مكان ينبت العز طيب
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله .. فإني أغني منذ حين وتشرب
ثم يعلق على ذلك بالقول "وفي هذا العتاب نفَس من النكتة المصرية وأريحيتها كما لا يخفى ولا أكاد أشك أن أبا الطيب رضي مصر وأحبها وما كان يسعه غير هذا".
من خلال الكتاب، جاست رؤى البروفيسر، حول شخصية أبي الطيب متوقفا مع بعض المعطيات ليستل منها معنى يقترب من ماهية المعلومات وإن كان ورد في إهاب الملحوظة والتحليل، فهي ملحوظات من خلالها يستشف مخايل المعلومات المفترضة، حيث يستنطق بعض أخبار أبي الطيب ويزيح الركام عن طبقة من معناها المحتمل وهو ما يعني مزيدا من جزئيات وأطراف الصورة التي قد تعرفنا أكثر بأبي الطيب وتجمع معالم شخصيته وملامح صورته حتى تصبح لقطاته أمامنا رأي العين، والمثال لهذا تناوله لمسألة إنشاد أبي الطيب لأشعاره جالسا، مخالفا بذلك مسلك الشعراء، حيث يتحدث في هذا السياق عن أن "الجلوس قد كان ولا يزال عند أهل الشرق من سمت المغنين، ولعل أبا الطيب رحمه الله قد كان يترنم ويتغنى إذا أنشد فقد روي أنه كذلك كان يصنع شعره".
سرت حميّا الإعجاب بالمتنبي في وجدان عبد الله الطيب أيما سريان، وبرعاية الأدب توطدت صلاته الحميمية مع أبي الطيب والشفيق مولع بما يعرف عنه من ظنه، وذلك ما قد يسمح باستحضار ما أورده البروفيسور في الكتاب عن خواتيم مسيرة أبي الطيب وما يتعلق بالقصيدة الكافية التي كانت آخر ما كتبه من النصوص موردا منها:
فزل يا بعد عن أيدي ركاب .. لها وقع الأسنة في حشاكا
وأيا شئتِ يا طِرفي فكوني .. أذاة أو نجاة أو هلاكا
وينقل بعض ما حكي من أنه "جعل قافية البيت الهلاك فهلك" وأن عضد الدولة جال بذهنه هذا التوقع عند ما ترك المتنبي كلمة النجاة في البيت بين الأذاة والهلاك.
المتنبي محور مناسب للحديث عن مسيرة الشعر العربي بشكل عام وهنا عاد الزمن النقدي بعبد الله الطيب إلى الوراء فتحدث عن رائد عبقرية الشعر العربي الأول امرئ القيس عاقدا المقارنة بينه وبين أبي الطيب وأتى في ذلك بالعجب العجاب فصاغ من جميل السبك ورائق المعنى تحليلاته وأورد فقرة تكتب بماء اللُّجين، وهي قوله "وقد راضَ امرؤ القيس لغة وحشية فأسلست وصفت له كل الصفاء، وأصاب أبو الطيب منها غديرا راكدا فأثاره وأجرى فيه التيار".
*أحمد مولود اكاه
مهتم بمجالات الإعلام والأدب