نشرت مجلة وورلد بوليتيكس ريفيو (WPR) الأمريكية، مقالاً بعنوان: قد يكون الدور التالي على مصر وإيران في إذابة الجليد بين دول الشرق الأوسط”، لنائل شامة، الباحث والكاتب السياسي المهتم بسياسات الشرق الأوسط، حيث قال فيه إنه في إطار تطور العلاقات بين دول الشرق الأوسط، فإنه من المرجح أن يكون الدور التالي على مصر وإيران لإذابة الجليد واستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما. وقد جاء المقال على النحو التالي:
استمرت جهود الوساطة الهادئة بين مصر وإيران منذ عدة شهور، في مسعى لإنهاء واحدة من أطول النزاعات في الشرق الأوسط، والتي غالباً ما يتم تجاهل التطرق إليها. ففي شهر مايو 2023، أشارت تقارير إعلامية موثوقة إلى أن محادثات مصرية-إيرانية كانت تجري في بغداد منذ شهر مارس. وفي وقت لاحق من نفس الشهر، زار سلطان عمان هيثم بن طارق كلاً من القاهرة وطهران فيما فُسر على أنه محاولة للتوسط في المصالحة بين البلدين.
وقد أعلن العديد من المسؤولين الإيرانيين، بمن فيهم المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي، بشكل علني تأييدهم لهذه الجهود. وقال أحد أعضاء البرلمان الإيراني إنه يتوقع أن تُتوّج تلك المحادثات باستعادة العلاقات الرسمية بين البلدين وتمهيد الطريق لاجتماع بين زعيمي البلدين. لكن المسؤولين المصريين، من جهتهم، تبنّوا موقفاً حذراً من هذه القضية، حيث قال وزير الخارجية سامح شكري إن الوضع الراهن مع إيران لم يتغير.
وكانت العلاقات بين مصر وإيران قد توترت منذ أكثر من أربعة عقود، على الرغم من أن تلك التوترات قد تخللتها فترات من الهدوء. كما يمكن أن تُعزى هذه التوترات جزئياً إلى الأحداث الدرامية التي وقعت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، عندما منحت مصر ملاذاً آمناً للشاه الإيراني محمد رضا بهلوي بعد الإطاحة به من قبل الثورة الإسلامية عام 1979. وعاش الشاه في القاهرة حتى وفاته عام 1980، حيث دُفن هناك بعد ذلك.
وفي علامة على الاحتجاج، قام حكام إيران الجدد بقطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر. وفي وقت لاحق، عندما اغتال ضابط في الجيش المصري الرئيس آنذاك، أنور السادات، في عام 1981، أطلقت السلطات في طهران اسم الضابط على شارع رئيسي في المدينة. واستمرت تلك المرارة التي اشترك في إحداثها الجانبان في تسميم العلاقات الثنائية بينهما لبعض الوقت.
وبالإضافة إلى هذه الإشارات الرمزية المسيئة، فإن هناك عدداً من الاعتبارات الإستراتيجية التي عمّقت هذا الصدع. ولكن بعد عِقد من الزمان من الحماسة الثورية في إيران نتج عنها علاقات عدائية مع جميع جيرانها تقريباً، سعت طهران إلى وضع حد لعزلتها الإقليمية.
أما بالنسبة لمصر، فباعتبارها حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتتلقى حوالي ملياري دولار من المساعدات الأمنية والاقتصادية من واشنطن كل عام، لم تشعر بالحاجة إلى إصلاح علاقاتها مع دولة اعتاد قادتها على وصف الولايات المتحدة بأنها “الشيطان الأكبر”. وبحلول الثمانينيات والتسعينيات، طوّرت مصر أيضاً روابط سياسية واقتصادية وثيقة مع دول الخليج العربي، وخاصة المملكة العربية السعودية، التي اعتبرت إيران تهديداً أمنياً لها.
وكان الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، الذي حكم البلاد من عام 1981 إلى عام 2011، يرى أن التقرب من إيران قد يُعرّض تحالف بلاده الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، وكذلك دول الخليج، للخطر. وبالإضافة إلى ذلك، ففي مواجهة معارضة إسلامية شرسة، كان مبارك يشعر بعدم الارتياح إزاء ترويج إيران لشكل من أشكال النشاط الإسلامي العابر للحدود، وكانت لديه شكوك في أن طهران تهدف إلى تنمية علاقاتها مع الجماعات الإسلامية في مصر.
وبعد الإطاحة بمبارك في عام 2011، سعى الرئيس محمد مرسي، قريب الصلة بجماعة الإخوان المسلمين، إلى إعادة العلاقات مع إيران، وزار طهران في عام 2012، ثم استقبل الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في القاهرة في العام التالي. لكن حالة الدفء في العلاقات هذه لم تدم طويلاً، حيث انتهت بعد صعود الجنرال عبد الفتاح السيسي إلى السلطة في 2013.
ومع ذلك، ظهر وضع جديد في منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، بسبب تصورات بأن الولايات المتحدة تنسحب تدريجياً عن المنطقة. فبينما قلّصت واشنطن التزاماتها حيال المنطقة وحولت نظرها إلى المحيطين الهندي والهادي، ردّت القوى الإقليمية من خلال تنويع شراكاتها الدولية وتعزيز علاقاتها مع روسيا والصين على وجه الخصوص. كما أنهم أصبحوا أقل رغبة في الاستجابة لمطالب الولايات المتحدة. وفي شهر مارس، توسطت الصين في صفقة تطبيع تاريخية بين السعودية وإيران. وفي شهر مايو، استعادت سوريا مقعدها في جامعة الدول العربية بعد 11 عاماً من تعليق عضويتها، على الرغم من انتقادات واشنطن العلنية لهذه الخطوة. وفي هذا السياق، يُعَدّ الحوار المصري-الإيراني جزءاً من جهود مصالحة إقليمية أوسع لا تملك الولايات المتحدة أي سيطرة تُذكر عليها.
وليس هناك أي شك في أن إيران تقترب من المحادثات مع مصر بهدف تخفيف عزلتها النسبية في العالم العربي وتقويض الجهود الأمريكية والإسرائيلية لتشكيل جبهة عربية معادية لإيران. وفي الواقع، فإن مصر، الدولة العربية الأكثر اكتظاظاً بالسكان، هي آخر دولة عربية كبرى لم تشرع بعد على الأقل في إصلاح علاقاتها مع إيران.
ولكن دوافع مصر في ذلك تبدو أقل وضوحا. فالبلاد محاطة بالعديد من النقاط الساخنة التي يحتمل أن ينتقل أثرها إليها، بما في ذلك في ليبيا والسودان وغزة؛ ولذلك فالقاهرة لديها مصلحة في تعزيز المشاركة والاعتدال في جميع أنحاء المنطقة. فبعد ما يقرب من عِقد من الزمان من العداء، أصلحت مصر مؤخراً، على سبيل المثال، علاقاتها مع قطر، وقلّصت من خلافاتها مع تركيا.
ويمكن النظر إلى الحوار بين القاهرة وطهران من هذا المنظور. فالقاهرة على علم بنفوذ إيران على حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى المتمركزة في غزة. وقد يكون من وجهة نظرها، أنه بالإمكان الاستفادة من التفاهم المحتمل مع إيران لتهدئة السلوك المتشدد لهذه الجماعات.
ولكن ربما هناك ما هو أكثر من ذلك. فمصر تعيش في خضم أزمة اقتصادية حادة أدت إلى خفض قيمة عملتها إلى النصف وتعطيل التدفقات التجارية. وفي مواجهة نقص حاد في العملات الأجنبية، سعت القاهرة إلى الحصول على أشكال مختلفة من المساعدات المالية من المؤسسات المالية الدولية ودول الخليج الغنية بالنفط وحتى دول مثل الهند، وحتى ليبيا التي مزقتها الحرب.
ولكن الحقيقة أنه ليس لدى إيران الكثير لتقدمه في شكل مساعدات مباشرة، حيث تواجه طهران تحدياتها الاقتصادية الخاصة بسبب تأثير العقوبات الأمريكية. لكن تحسن العلاقات بين البلدين يمكن أن يكون نعمة لقطاع السياحة في مصر. فبإمكان مصر، التي تُعتبر موطناً لعشرات الأماكن المقدسة الشيعية والمساجد والأضرحة، أن تجتذب أعداداً كبيرة من الزوار الإيرانيين – الذين مُنعوا من دخول البلاد منذ عقود – إذا تم تطبيع العلاقات بين البلدين. ويمكن أن يقدم ذلك مساهمة حاسمة للاقتصاد المصري الذي يعاني من ضائقة مالية.
وفي واقع الأمر، فقد تم بالفعل اتخاذ خطوة في هذا الاتجاه في شهر مارس، عندما خففت السلطات المصرية من اشتراطات منح التأشيرات للسماح للإيرانيين المسافرين على شكل مجموعات إلى جنوب سيناء بالحصول على تأشيرات عند الوصول. ويمكن أن يؤدي التقارب بين البلدين أيضاً إلى تعزيز التعاون الاقتصادي بينهما، بما في ذلك في قطاع النفط الحيوي.
ومع ذلك، فإن استعادة العلاقات المصرية الإيرانية ليست نتيجة حتمية، حيث تسير مصر حالياً بحذر على هذا المسار. وقد استخدمت الأجهزة الأمنية ذات النفوذ القوي حق النقض ضد خطوات مماثلة في الماضي، على الرغم من ميل كبار الدبلوماسيين في البلاد للنظر في الخيارات التصالحية الممكنة. وبالإضافة إلى ذلك، تحرص مصر على عدم استفزاز رُعاتها الخليجيين، الذين دأبوا تاريخياً على النظر بارتياب إلى التقارب المصري-الإيراني، خوفاً من أن يُحدث خللاً بتوازن القوى الحساس في الخليج. والآن بعد أن سعت السعودية والإمارات إلى انفراجة في العلاقات مع إيران، فقد يرفعان اعتراضهما على أن تحذو القاهرة حذوهما في ذلك.
ومع ذلك، فإذا نجح تطبيع العلاقات بين مصر وإيران، فإن ذلك من شأنه أن يكشف مرة أخرى دور واشنطن المتضائل في التأثير على الديناميكيات الإقليمية. ومع تآكل “السلام الأمريكي” أو ما يُطلق عليه (Pax Americana) في الشرق الأوسط على مدار العقد الماضي، فقد قامت القوى الفاعلة المحلية بشكل متزايد بتشكيل ملامح السياسة الإقليمية، وفي الأغلب بالتعاون مع الصين وروسيا. لكن الخاسر الأكبر من مثل هذه النتيجة سيكون إسرائيل، التي تشعر بالتهديد من برنامج إيران النووي وتعتَبر طهران ووكلاءها في المنطقة قوى شريرة لا يمكن التفاوض معها. ولن يؤدي إعادة دمج إيران وسوريا في المجتمع الإقليمي إلا إلى تفاقم مخاوف إسرائيل الأمنية.
قد تساعد الموجة الأخيرة من صفقات المصالحة في الشرق الأوسط على تهدئة التوترات في المنطقة. لكن إلى متى؟ فالصراع مستوطن بين دولها، وغالباً ما تكون فترات السلام عابرة. لكن إذا نجحت مصر وإيران في تطبيع علاقاتهما، فستكون على الأقل خطوة نحو معرفة الإجابة على هذا السؤال.