بقلم: محسن صالح : بعد أن تحدثنا في الجزء الأول عن المشاريع والأدوار الدولية في المنطقة العربية، نتابع في هذا الجزء الثاني وهو الأخير، الحديث عن المشاريع الإقليمية في المنطقة:
المشروع الصهيوني:
يحاول المشروع الصهيوني، من ناحية رابعة، أن يوسع خريطة نفوذه في المنطقة، في بيئة عربية ضعيفة ومفككة ومتخلفة، وتحكمها إلى حد كبير منظومات سياسية فاسدة ومستبدة. وهو يسعى إلى أن يستفيد من النفوذ والدعم الأمريكي الغربي، ومن قدراته العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية المتطورة، ليحدث حالة اختراق تطبيعي غير مسبوقة في المنطقة، وليتحول إلى "كيان طبيعي" مستقر وفعال في صياغة الخطوط السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والثقافية للمنطقة.
غير أن المشروع الصهيوني، بالرغم من حالة العلو، إلا أنه يشهد أزمات متصاعدة أبرزها تصاعد قوة المقاومة المسلحة، وصمود الشعب الفلسطيني وتجاوزه أعداد اليهود في فلسطين التاريخية، ورفض البيئة الشعبية العربية والإسلامية للتطبيع معه، وتراجع نوعية القيادة السياسية، وتراجع الأداء القتالي للجندي الإسرائيلي، وارتباك البيئة السياسية الداخلية.
ولذلك، فبالرغم مما يظهر من تقدم واختراقات تطبيعية، إلا أن التأثير في تشكيل الخرائط يبقى محدودا، وستبوء مساعي أي نظام عربي يُعوِّل على التحالف مع الكيان الإسرائيلي بالفشل؛ لأنه لا يمكن الاعتماد عليه، ولأنه سيتزايد عبئه على الأنظمة المطبِّعة بقدر زيادة انفتاحها عليه.
المشروع الصهيوني، بالرغم من حالة العلو، إلا أنه يشهد أزمات متصاعدة، أبرزها تصاعد قوة المقاومة المسلحة، وصمود الشعب الفلسطيني وتجاوزه أعداد اليهود في فلسطين التاريخية، ورفض البيئة الشعبية العربية والإسلامية للتطبيع معه، وتراجع نوعية القيادة السياسية، وتراجع الأداء القتالي للجندي الإسرائيلي
* * *
المشروع الإيراني:
أما المشروع الإيراني، فلعله من ناحية خامسة، أكثر المستفيدين من حالة التشكل وإعادة التشكل واللا استقرار التي تشهدها المنطقة. وقد نجح في توسيع دوائر نفوذه في العراق وسوريا واليمن ولبنان؛ وبات لاعبا رئيسيا. كما يظهر أنه يعزز مواقفه في ضوء فشل العقوبات الغربية عليه، وفي ضوء اضطرار الولايات المتحدة والغرب للعودة للتفاوض على ملفه النووي، وبمحصلة مقبولة لإيران.
ويتمتع المشروع الإيراني بعقل سياسي واستراتيجي محترف، وبروح "رسالية" لمن يحمله، وبقدرة عالية على إدارة الموارد المتاحة في ظروف المقاطعة والعقوبات الدولية. كما يستفيد الجانب الإيراني من البيئة الفاسدة والمستبدة في المنطقة، ومن انشغال الأنظمة العربية بقمع شعوبها، وبقمع أي مشاريع نهضوية حقيقية؛ حيث يوفر له ذلك فراغا حيويا لتحركه؛ في الوقت الذي يركز طرحه على دعم المقاومة، ورفض التطبيع، وتبني هموم الناس.
غير أن قدرة إيران ما زالت محدودة على مدّ نفوذها بسبب اتخاذ مشروعها طابعا مذهبيا، يُضعف قدرتها على إيجاد قاعدة التأييد التي تحتاجها في "البحر" العربي السُنِّي، بل ثمة نتائج عكسية في البلدان التي بسطت نفوذها فيها. كما أن مناطق النفوذ نفسها تعاني من انهيارات ومشاكل اقتصادية وسياسية وأمنية، ومعارضات قوية ممن يرفضون هذا النموذج وممارساته. وهو ما لا يتيح لهذا المشروع البناء على هذه التجارب لتقديم نموذجه، وتوسيع دائرة نفوذه، في بيئات تخالفه مذهبيا، خصوصا في الوقت الحالي.
قدرة إيران ما زالت محدودة على مدّ نفوذها بسبب اتخاذ مشروعها طابعا مذهبيا، يُضعف قدرتها على إيجاد قاعدة التأييد التي تحتاجها في "البحر" العربي السُنِّي، بل ثمة نتائج عكسية في البلدان التي بسطت نفوذها فيها. كما أن مناطق النفوذ نفسها تعاني من انهيارات ومشاكل اقتصادية وسياسية وأمنية، ومعارضات قوية ممن يرفضون هذا النموذج وممارساته
المشروع التركي:
ومن ناحية سادسة، فإن المشروع التركي شهد تراجعا كمشروع إقليمي في السنوات القليلة الماضية، بعد أن كان مشروعا واعدا قبل عشرة أو خمسة عشر عاما. إذ إن نجاح حزب العدالة والتنمية ذي الخلفية الإسلامية في الوصول إلى الحكم، وتحقيق قفزات اقتصادية ضخمة، وتمكنه من قصقصة أجنحة "الدولة العميقة"، وإعادة الجيش للثكنات، ودعم قيادته لقضية فلسطين والقدس والهجوم الإعلامي والسياسي على ممارسات الكيان الصهيوني، ودعم ثورات "الربيع العربي"، والتدخل العسكري لصالح المعارضة السورية، وقوى التغيير في ليبيا، ومن ثم، البروز الكبير لأردوغان كقائد سياسي ورمز للإصلاح والتغيير. كل ذلك أعطى انطباعا لدى الكثير من الجماهير العربية بصعود مشروع تركي يُعبّر عن الكثير من تطلعاتهم، أو يقدم نموذجا يمكن استلهامه أو الاستفادة منه للتغيير.
غير أن النظام التركي لم يسلم من الكثير من التحديات الداخلية والخارجية؛ إذ إن طبيعة النظام الانتخابي، وتحقيق الشعبية المطلوبة للفوز، أمر مرتبط بالإنجاز الاقتصادي والرفاه المعيشي، مما يجعل الحزب الحاكم مسكونا بذلك، لئلا يسقط في أول انتخابات قادمة، كما أن الولايات المتحدة وعددا من القوى الأوروبية والكيان الصهيوني لم تكن سعيدة بأداء أردوغان وحزبه، فدعمت المعارضة. وكذلك، سعت عدّة دول عربية وخصوصا الخليجية إلى إسقاط أردوغان، خشية من التأثير الذي يحدثه نجاحه على أوضاعها الداخلية، بالإضافة إلى غضب واستياء نظامَي الحكم في سوريا والعراق من التدخل التركي.
ولأن حزب العدالة والتنمية يمارس سياسة براغماتية، ويتبنى العلمانية المحافظة (ولا يدَّعي أنه يتبنى مشروعا إسلاميا)، ويقدِّم الاعتبارات العليا للأمن الوطني والقومي التركي، ولأن قوى التغيير في المنطقة العربية جرى ضربها وقمعها، فقد فضّل أردوغان وحزبه إعادة التموضع، من خلال تخفيف دعمه لقوى التغيير، وإعادة تطبيع علاقاته مع الكيان الصهيوني، ومع دول "الاعتدال" العربي، بما في ذلك السعودية والإمارات ومصر، وإعادة ترتيب علاقاته مع النظام السوري.
لأن حزب العدالة والتنمية يمارس سياسة براغماتية، ويتبنى العلمانية المحافظة (ولا يدَّعي أنه يتبنى مشروعا إسلاميا)، ويقدِّم الاعتبارات العليا للأمن الوطني والقومي التركي، ولأن قوى التغيير في المنطقة العربية جرى ضربها وقمعها، فقد فضّل أردوغان وحزبه إعادة التموضع، من خلال تخفيف دعمه لقوى التغيير، وإعادة تطبيع علاقاته مع الكيان الصهيوني، ومع دول "الاعتدال" العربي
ومن ثم، فقد حدثت حالة "انكفاء" عن تقديم أو رعاية مشروع إقليمي، بانتظار النجاح في عبور استحقاقات انتخابات 2023. غير أن ذلك لم يمنع القيادة التركية أن تتابع ممارسة تأثير محدود، خصوصا في الجانب العسكري كما حدث في ليبيا وأذربيجان؛ وبشكل يعبر عن إدارة المصالح وأولويات الأمن القومي، أكثر مما يعبر عن مشروع للمنطقة.
* * *
قوى التغيير والإصلاح:
ماذا عن قوى التغيير والإصلاح في المنطقة؟ تبدو هذه القوى، من ناحية سابعة، في أوضاع صعبة، بعد أن تلقى مشروعها ضربات قاسية في الموجة المضادة التي تلت "الربيع العربي". فبالرغم من نجاحها في إسقاط عدد من الأنظمة العربية 2011–2012، وهز الأوضاع بقوة في العالم العربي، وبروزها كرافعة محتملة لمشروع نهضوي وحدوي عربي إسلامي، إلا أنه جرى إجهاضها وتشويهها وتهميشها، خصوصا في مصر واليمن وليبيا وسوريا وتونس، وجرى قمع تطلعاتها في بلدان الخليج أو تفريغها من محتواها كما في المغرب العربي. وتضافرت في ذلك قوى إقليمية ودولية متحالفة مع قوى الدولة العميقة في هذه البلدان.
وقد دفعت قوى التغيير أثمانا باهظة، نتيجة عدم جاهزيتها للانتقال من ريادة المجتمع إلى قيادة الدولة وإدارتها، كما عانت بدرجات متفاوتة من أزمات في الرؤية وفي القيادة وفي البرنامج وفي البنى التنظيمية، ودفعت أثمان انكفائها القُطري واستفراد أعدائها بها. وهي تعاني هذه الأيام من بيئات إحباط لدى الكثير من مؤيديها.
دفعت قوى التغيير أثمانا باهظة، نتيجة عدم جاهزيتها للانتقال من ريادة المجتمع إلى قيادة الدولة وإدارتها؛ كما عانت بدرجات متفاوتة من أزمات في الرؤية وفي القيادة وفي البرنامج وفي البنى التنظيمية، ودفعت أثمان انكفائها القُطري واستفراد أعدائها بها
وفي المقابل، فإن قوى التغيير، وخصوصا ذات الخلفية الإسلامية، ما زالت هي الأكثر حضورا في البيئات الشعبية (ويبرز ذلك عندما يرتفع سقف الحريات)، حيث فشلت الأنظمة من استئصالها وعزلها. كما أن الأنظمة العربية التي قمعت قوى التغيير ما زالت تقوم بإعادة إنتاج منظومات الفساد والفشل التي أدت إلى ثورات "الربيع العربي"، ومن ثم إيجاد بيئات الصعود لقوى الإصلاح والتغيير من جديد.
وتبرز قوى المقاومة الفلسطينية، تحديدا ذات الخلفية الإسلامية (بالرغم مما تعانيه من تضييق وحصار)، كقوى صاعدة فَشِل العدو الصهيوني في تطويعها، ونجحت في تطوير أدائها العسكري الذي برز بشكل كبير في معركة سيف القدس 2021، كما نجحت إلى جانب المقاومة الشعبية في الدفاع عن القدس والمسجد الأقصى وفي تعبئة جماهير الأمة حولها. ومن ثم ظلت قضية فلسطين القضية الجامعة والموحدة، والموجهة للبوصلة، والرافعة لمعاني العزة والكرامة والرغبة في التحرر والنهوض. وأسهمت في رفع سوية الأمة وفي مواجهة الشعوب لاختراقات التطبيع مع العدو الصهيوني. وهو ما يعني أن رأس قوى المقاومة كان مطلوبا لتمرير المشروع الأمريكي الصهيوني التطبيعي في المنطقة، كما أن نجاح المقاومة وصمودها يقطع الطريق على تشكيل خرائط هذا المشروع؛ ويقدم رافعة لقوى التغيير والإصلاح، لاستعادة زمام المبادرة وتقديم مشروعها.
* * *
أيا تكن الجهود الأمريكية، فإن مسارها العام مسار متراجع، ولا يمكن للروس ولا الصينيين ولا للمشاريع الإقليمية الحالية أن تملأ الفراغات في بيئة الإقليم
وبناء على ما سبق، فإننا أمام حالة من اللااستقرار ومن "القلق" و"الفراغ الاستراتيجي"؛ إذ إنه بالرغم من تمتع اللاعبين الكبار بعدد من المزايا، إلا أن الجميع يعاني من أزمات كبيرة، بعضها بنيوي وجوهري، تمنعه من فرض رؤيته لخرائط النفوذ في المنطقة.
وأيا تكن الجهود الأمريكية، فإن مسارها العام مسار متراجع، ولا يمكن للروس ولا الصينيين ولا للمشاريع الإقليمية الحالية أن تملأ الفراغات في بيئة الإقليم.
ولعل ذلك يعطي فسحة أمل لقوى الإصلاح والتغيير في المنطقة لاستعادة الثقة واستلام زمام المبادرة، وتقديم مشروعها الإسلامي النهضوي الحضاري بقوة، وبروح ملهمة. غير أن ذلك يحتاج من هذه القوى، الكثير من العمل لتقديم تصوراتها وحلولها الناضجة في إدارة الدولة، وفي بناء الإنسان المتحرر من الخوف على الرزق والحياة، وفي تكوين المجتمع الحاضن للنهضة، وفي استعادة ثقة الجماهير، وفي تثويرها ضد واقعها البئيس. كما أن على هذه القوى تطوير بناها التنظيمية، وتفاعلها مع الناس، وتقديم قيادات ورموز مؤمنة وملهمة وقوية وفعالة وصلبة، للعبور بموجة التغيير القادمة إلى برّ الأمان.