بقلم : محمد بن مختار الشنقيطي: أخيرا وقع الفأس على الرأس، وزارت قيادات من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) -صحبة فصائل فلسطينية أخرى- دمشق، والتقتْ ببشار الأسد، وأعلنت المصالحة معه، والندم الضمني على ما سلف من الجفاء معه. ولم يخل اللقاء، شكلا ومضمونا، من مظاهر الابتذال والبلاهة السياسية. فقد وصف أحد قادة حماس اللقاء مع الأسد بأنه "كان دافئا"، كما وصف يوم اللقاء بأنه "يوم تاريخي" و"يوم مجيد"!
ولا يتناول هذا المقال موضوع المصالحة بين حماس والأسد من وجهة نظر أخلاقية، فقد خصصنا لذلك مقالا ضافيا على هذا الموقع بعنوان: "حماس وأحلافها.. ملاحظات في الأخلاق السياسية والذكاء السياقي"، بل يتناول القضية من منظور إستراتيجي بحت، حيث يركّز على ما يبدو أنه تراجعٌ في الحاسَّة الإستراتيجية لدى حماس في تعاملها مع هذا الملف، مقارنة مع ما اتسمت به سابقا من حصافة سياسية، وبُعدِ نظرٍ إستراتيجي. وسأقتصر هنا على نقاط محددة، أرى أن تراجع الحاسة الإستراتيجية لدى حماس أظهرُ فيها من غيرها.
يُخيَّل للمتابع لمصالحة حماس مع الأسد أن الحركة ستقتحم مرتفعات الجولان السورية المحتلة في المستقبل القريب، جنبا إلى جنب مع كتائب حزب الله اللبناني وفيالق جيش النظام السوري، ثم تنطلق من مرتفعات الجولان إلى تحرير كل فلسطين
أولاً: الحلم بالمأوى الدمشقي في ظروف المضايقة
من المسوِّغات التي بنت عليها قيادة حماس قرارها بالمصالحة مع نظام الأسد سعيها لاسترجاع مأوى آمن لها في سوريا، بعد تضييق الخناق عليها. ولا شك في أن سوريا في الظروف العادية مأوى مثالي لأي حركة مقاومة فلسطينية، بحكم الجوار الجغرافي، والموقع الإستراتيجي، والقرابة البشرية. بيد أن وضع سوريا اليوم أبعد ما يكون عن الظروف العادية، ويبدو أن تقدير قادة حماس في هذا الموضوع الآن يشتمل على مجازفات ومخاطرات غير محسوبة، لأنه أغفل بعض الأمور الجوهرية، منها أن النظام السوري لم يعد يملك القدرة على تأمين نفسه من سطوة الذراع الصهيونية الطويلة، فضلا عن تأمين قادة حماس وكوادرها وهياكلها، كما كان يفعل في أعوام الصفاء السابقة بينهما.
فحالة الانكشاف الإستراتيجي الحالي للنظام السوري أمام السطوة الصهيونية -بعد أن بدَّد الأسد قوة سوريا في حربه الإجرامية ضد شعبه- ستجعل من حماس مرتعا مريحا للاغتيالات والتصفيات الصهيونية. ومنها أن النظام السوري لم يعد يملك الإرادة لتوفير الحماية والرعاية لحماس، ولا الاستعداد لتحمُّل تبِعاته. بل الراجح في رأيي أن النظام السوري إذا عادت حماس إلى أحضانه فيستخدمها ورقة دولية لإعادة تأهيل نفسه، مقابل تصفية الحركة وكسْر بنيتها ومقاومتها، بعد أن يلطِّخ سمعتها، ويهدم رصيدَها المعنوي، ومكانتها في عموم الأمة بالتصالح معه. والغالب أن الأسد سيتعامل مع ملف حماس بانتهازية شديدة، وهي دفع رقاب حماس إلى أعدائها، وتقديمها قربانا لأميركا وإسرائيل مقابل إعادة تأهيل نفسه أميركيا وغربيا.
وليس من ريب أن النظام السوري لن يجد غضاضة في فعل ذلك، خصوصا حين يتزامن الأمر مع انحسار النفوذ الإيراني في سوريا، أو مع مصالحة إيرانية أميركية، وكلا الأمرين وارد في الأمد المنظور. ولعل دبلوماسية المنِّ والأذى التي تعامل بها إعلام النظام السوري وذيوله مع قرار المصالحة الحمساوية معه لها دلالتها الواضحة على ما هو قادم.
ثانيا: الحلم بجبهة فلسطينية على الحدود السورية
يُخيَّل للمتابع لمصالحة حماس مع الأسد أن الحركة ستقتحم مرتفعات الجولان السورية المحتلة في المستقبل القريب، جنبا إلى جنب مع كتائب حزب الله اللبناني وفيالق جيش النظام السوري، ثم تنطلق من مرتفعات الجولان إلى تحرير كل فلسطين. والحقيقة أن هذا التصور أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. فالنظام السوري محافظٌ على سلامة الحدود الإسرائيلية معه، خانعٌ لاحتلالها للجولان على مدى أكثر من نصف قرن. ومع كل الجعجعة السياسية والإعلامية للنظام السوري لم يسمح هذا النظام لنفسه ولا لغيره بتوجيه طلقة واحدة إلى الصهاينة الذين يحتلون أرض سوريا في الجولان.
هذا حينما كان النظام السوري في أوج قوته العسكرية واستقراره السياسي، فكيف وهو اليوم نظام غَثٌّ رَثٌّ، لا يملك قوة عسكرية، ولا مصداقية سياسية. وإذا افترضنا أن قرار فتح جبهة مع الصهاينة على الحدود السورية لم يعد بيد نظام الأسد، بل أصبح بيد إيران التي غدا تأثيرها واضحا في القرار الإستراتيجي بدمشق، فإن إيران لم تجازف بهذا الأمر في الماضي، ولن تجازف به في المستقبل، إلا في حالة واحدة، وهي الحرب العسكرية الإسرائيلية الأميركية المفتوحة على إيران. وفي هذه الحالة -التي تعتبر غير واردة عمليا- لن تكون حماس أكثر من تفصيل بسيط ضائع في خضم حرب إقليمية ودولية معقدة، وخاضعٍ لمعادلات السلم والحرب بين الأطراف المتحاربة، بعيدا عن رسالته الأصلية وقضيته المحورية. ويدرك القادة الإيرانيون أن فتح جبهة عسكرية على الحدود السورية الإسرائيلية تترتب عليه خسائر إستراتيجية كبرى، ليس أقلها إسقاط النظام السوري الموالي لهم على أيدي القوى الغربية، التي ستهبّ لنصرة الدولة اليهودية، وكسْر ذراع إيران الممتد من طهران إلى لبنان.
ثالثا: النظرة الموضعية للقضية الفلسطينية
من مظاهر فقدان الحاسة الإستراتيجية في قرار المصالحة مع نظام الأسد غلبة النظرة الموضعية على رؤية قادة حماس لهذا الموضوع. ولو أن قيادة حماس انطلقت من نظرة إستراتيجية أرحب ترى الترابط الوجودي بين القضية الفلسطينية وقضية الثورات العربية، وتدرك علاقة التأثير والتأثر بين القضيتين، ولا تستعجل قطف الثمار على الثغر الفلسطيني قبل نضجها.. لأخذت الأمور بفهم أدق، ونفس أطول، وتقدير أسلم.
ذلك بأن الربط الإستراتيجي بين الخاص الفلسطيني والعام العربي في الزمن الحاضر يدل على أن تغييرا أساسيا في البيئة الإستراتيجية المحيطة بفلسطين شرط مسبق لأي إنجاز حقيقي على طريق تحرير فلسطين. وبلغة أصرح وأوضح فإن انتصار حركة التغيير السياسي والانتقال الديمقراطي في العالم العربي -خصوصا في دول الطوق والجوار الفلسطيني- شرط مسبق لازم لتحرير فلسطين، لكن التسويغات التي تقدمها حماس لمصالحتها مع الأسد تدل على أن الحركة بدأت تنظر لهذا الموضوع نظرة ضيقة، ومن زاوية الثغر الفلسطيني حصرا، وترى الأمر بشكل معكوس تماما.
قد يكون هذا أمرا مفهوما من الناحية النفسية، وإن لم يكن سديدا من الناحية الإستراتيجية. صحيح أن أهل كل ثغر أكثر إحساسا بآلامه، وتعلُّقا بآماله، وهم يرونه راجحا على غيره، وصحيح أن التوازن في هذا الموضوع أمر عزيز، نظرا لما يعانيه أهل كل ثغر من القهر والظلم. لكن من خصوصيات الصراع على فلسطين أنه لم يكن صراعا موضعيا في يوم من الأيام، بل كان دائما وأبدا صراعا متداخلا مع حالة الأمة بشكل عام.
فالنظرة الموضعية المعكوسة التي بدأت تسود في حماس قد تضيع على أهل الثغر الفلسطيني القدرة على إدراك التشابك والتداخل بين العام والخاص هنا، وفهم الترابط بين الإنجاز على الثغر الفلسطيني والتقدم على جبهات التغيير والانعتاق السياسي في المنطقة، خصوصا في سوريا ومصر. وربما يعترض معترض هنا بالقول إن انتزاع أي انتصار في القضية الفلسطينية يخفف من سطوة الأخطبوط الصهيوني الذي يلعب بمصائر الثورات العربية، من خلال علاقاته الدولية المتشابكة، وتأثيره على المستبدين العرب.
لكن الحقيقة أننا إذا تركنا المكاسب التكتيكية جانبا، فإن الانتصار على الصهاينة انتصارا ذا قيمة في ظل بيئة إستراتيجية عربية ودولية مواتية له ومعادية للقضية الفلسطينية، أمر غير وارد أصلا. وغاية ما يستطيعه أهل فلسطين -في ظروف البيئة الإستراتيجية غير المواتية- هو الصمود على الأرض، والدفاع عما بقي من مقومات القضية، وحرمان الاحتلال من الشرعية الأخلاقية والقانونية، وزرع بذور التحرير، إلى أن تتغير البيئة الإستراتيجية، لتبدأ حركة التحرير الفعلية من بعد ذلك.
قد يكون من الوارد حصول حماس على شيء من الحضور الدولي جراء مدّ اليد لروسيا، وبعض المجاملات الإعلامية للقضية الفلسطينية على ألسنة القادة الروس، الذين بدؤوا -فجأة- بإظهار أنفسهم بمظهر المتعاطف مع قضايا الشعوب ضد الهيمنة الغربية، لكن الحاسة الإستراتيجية تستلزم عدم المبالغة في الآمال على تحولات غير مضمونة التحقق، وثمارُها -إن تحققت- غير معروفة حتى الآن
رابعا: القفز على منطق الجغرافيا السياسية
إذا استخدمنا منظارا أضيق، فإن حماس ذاتها تشكل حالة موضعية داخل فلسطين ذاتها، بحكم أن قطاع غزة يقع جغرافيا على هامش المعادلة الفلسطينية. فمنطق الجغرافيا السياسية يقول إن قلب فلسطين الحقيقي هو القدس والضفة الغربية، فضلا عن القدسية الدينية للقدس والمسجد الأقصى التي هي جزء أساسي من معادلة الصراع. ومهما تكن منجزات حماس في غزة -وهي عظيمة- ومهما تكن تضحيات أهل غزة -وهي جسيمة- فإن غزة ذاتها ليست مركز الثقل الفلسطيني، ولن تكون مركز الثقل فيه أبدا، بحكم عوامل الجغرافيا السياسية التي لا ترحم، اللهم إلا إذا انفتحت الجبهة المصرية ضد إسرائيل من جديد.
هذا يعيدنا إلى قضية البيئة الإستراتيجية مرة أخرى، فمن دون تغيير سياسي عميق في مصر وسوريا، لا مجال لتحرير فلسطين عمليا. وكان الأوْلى بقادة حماس والحالة هذه أن يركزوا على تحرير الضفة الغربية من أيدي سلطة محمود عباس العاجزة الشائخة، ومقاومة مصيبة التعاون الأمني بين تلك السلطة وسلطة الاحتلال، وبذل كل الجهد لإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية على أسس جديدة، تعيد لها رونقها، وتجدِّد شبابها، بدل الدخول في دهاليز المجاملات والتنازلات مع أنظمة عربية دموية قد اهتزت الأرض تحت أقدامها، وتصدَّعت كراسيها بعد ثورات الربيع العربي، ولديها حساب مفتوح مع شعوبها، ولم تعد جزءا عميقا من خريطة المستقبل، مهما تكن سطوتها الظاهرة في الزمن الحاضر. وإن أعجبْ فعجب ما أقرأه وأسمعه من قادة حماس من أن النظام السوري "قوي ومستقر"! وكأنهم لا يدركون أعراض شيخوخة الدول، ولا يميزون بين احمرار الشفق المتلفِّع بدماء الشعوب وإسفار الفجر المطلّ بوجهه في المنطقة.
خامسا: المراهنة على نظام دولي لم يولد بعد
من المهم لحركات التحرر الوطني من الاستعمار -ومنها حركة حماس- أن ترصد التبدلات الدائبة في معادلات القوة التي تتحكم في النظام الدولي، وأن تسعى لاستثمار أي باب يفتح أو فرصة تسنح في هذا المضمار. لكن من الضروري أن تقرأ تلك الحركات ميزان القوى الدولية قراءة دقيقة، وأن لا تنسى المصالح المشتركة بين القوى الدولية، والمساحات المشتركة بينها في منطقتنا، وهي منطقة لا تريد لها أي من تلك القوى الدولية بناء القوة، أو تحقيق النهضة، أو استقلال القرار الإستراتيجي.
المتابع لأطروحات قادة حماس وتحركاتهم بعد اندلاع حرب أوكرانيا، يرى سعيهم لفهم التحولات المترتبة على هذه الحرب، ومحاولتهم البحث عن أرضية مشتركة مع روسيا ضد الولايات المتحدة التي هي العدو الدولي التقليدي للقضية الفلسطينية. ورغم أني أشاطر هؤلاء القادة الحمساويين المحترمين أهمية هذا المسعى، وأرى متابعتهم للتحولات في النظام الدولي مما يُحسَب لهم، فإني أعتقد أنهم يراهنون على نظام دولي لم يولد بعد، ولا اتضحت معالمه.
قد يكون من الوارد حصول حركة حماس على شيء من الحضور الدولي جراء مدّ اليد لروسيا، وبعض المجاملات الإعلامية للقضية الفلسطينية على ألسنة القادة الروس، الذين بدؤوا -فجأة- بإظهار أنفسهم بمظهر المتعاطف مع قضايا الشعوب ضد الهيمنة الغربية، لكن الحاسة الإستراتيجية تستلزم عدم المبالغة في الآمال على تحولات غير مضمونة التحقق، وثمارُها -إن تحققت- غير معروفة حتى الآن. فروسيا التي يطمح بوتين إلى إعادة بناء قوتها اليوم ليست منافسا أيديولوجيا عالميا للغرب على نحو ما كان عليه حال الاتحاد السوفياتي، وإنما هي دولة طموحة تريد انتزاع مساحة لنفسها ضمن محيطها الإقليمي.
نواة القوة التي يسعى بوتين لإعادة بنائها تتركز أساسا في البيئة الإستراتيجية المحيطة بروسيا، أي في المحيط السلافي الأورثودكسي القريب، مع غلاف إستراتيجي في آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية تحمي به روسيا نفسها من توسع حلف شمال الأطلسي في اتجاهها. فكان الأولى بحركة حماس المراهنة على تغير البيئة الإستراتيجية العربية والإسلامية المحيطة بفلسطين أكثر من التعويل على تغير النظام الدولي بقيادة روسيا.
سادسا: ضعف الحصافة الإعلامية مرة أخرى
وإذا كانت قراءة المشهد الدولي بدقة أمرا لازما، فإن الحصافة الإعلامية المطلوبة في التعاطي مع العلاقات الدولية لازمة أيضا. لكن تصريحات ممثل حماس في الوفد الذي التقى الأسد لا تبشر بوجود هذه الحصافة الإعلامية الضرورية لأي قوة سياسية تحترم ذاتها. كما أن تعاطي بعض قادة حماس مع روسيا لا يوحي بوجود تلك الحصافة الإعلامية بالقدر اللازم. فالتعامل مع روسيا إعلاميا يستلزم تحوُّطا ومحاذرة، بحكم تورطها في أبشع ثورة مضادة في العالم العربي، وولوغها البشع في دماء الشعب السوري، من خلال حمايتها ورعايتها لنظام الأسد.
في هذا السياق أعتقد أن تصريح أحد قادة حماس لقناة روسيا اليوم الناطقة بالعربية بأن إسرائيل "لا تحترم الوجود الروسي في سوريا" لم يتسم بالحصافة الإعلامية المطلوبة. فلا الوجود الروسي في سوريا يستحق الاحترام من أي كان، لأن الاحتلال الروسي لسوريا لا يختلف عن الاحتلال الصهيوني لفلسطين في ثماره المدمرة إنسانيا وسياسيا وحضاريا، ولا هذه هي أحسن طريقة للحديث عن بناء مساحة مشتركة بين حماس وروسيا، بل توجد طرائق أخرى أفضل وأنبل وأكثر إقناعا، وهي الحديث عن التصدي للهيمنة الأميركية المعادية لروسيا وللقضية الفلسطينية مثلا، وشحذ نرجسية بوتين وطموحه إلى إعادة روسيا قوة عظمى، دون التورط في الحديث عن قضايا شائكة تنكئ الجراح، وتعمّق الفجوة بين الشعب الفلسطيني وأقرب الشعوب العربية إليه مكانا ووجدانا.
سابعا: التفريط في العمق الشعبي والقوة المعنوية
لست من المثاليين الحالمين الذين يرون إمكانية تحرر شعب محتل من احتلال استيطاني غاشم دون قوة عسكرية وبشرية ومالية، لكني أرى أن حركة حماس في قرارها التصالح مع نظام بشار الأسد، غلبت جوانب من القوة على جوانب أخرى أهمّ وأرسخ وأبقى. ويمكن تصنيف أنماط القوة التي تملكها حركات التحرير الوطني إلى صنفين:
صنف ينتمي إلى رأس المال الإستراتيجي الثابت الذي لا قوام لحركة تحرر من دونه.
صنف ينتمي إلى الكسب التكتيكي المتغير الذي تستطيع حركة التحرير التعامل مع أي قدر متاح منه، والتكيف مع زيادته ونقصه دون خسارة كبرى.
فالعمق الشعبي والرصيد المعنوي هما رأس مال حركات التحرير الذي لا تستطيع التفريط فيه دون أن تخسر قضيتها، أو تضيّع رسالتها وغاية وجودها. أما القوة العسكرية والمالية فهي كسب متغير، تستطيع حركة التغيير التعامل مع تموجاته، زيادة ونقصا، سعة وضيقا. بل استطاعت بعض حركات التحرر الوطني في القرن العشرين إنجاز الكثير ضد الاحتلال من خلال النضال المدني، والانتفاضات الشعبية، دون قوة عسكرية جدية.
قد قيل لستالين مرة إن البابا يعاديه، فأجاب ستالين ساخرا "كم فرقة عسكرية بيد البابا؟"، لكن لو كان العمر امتد بستالين لرأى كيف كانت سلطة البابا المعنوية من العوامل المهمة التي أسهمت في إسقاط المنظومة الشيوعية الخشنة التي شاد ستالين أركانها ووطد بنيانها. فالسياسي الحصيف لا يستسهل أمر القوة المعنوية، لهثا وراء مكاسب مادية وسياسية عابرة، خصوصا إذا كان يقود حركة تحرر وطني تستمد مسوغ وجودها من عدالة القضية، ونقاء الراية، وشرعية الوسائل. ذلك بأن "الشرعية هي قوة الضعفاء" كما قال بحق السياسي والأديب التشيكي فاكلاف هافل.
في هذا السياق لا أرى من الصواب مقارنة النظام السوري بغيره من الأنظمة العربية، كما يرد ضمن تسويغات حماس لتصالحها مع الأسد. فلم يبلغ نظام عربي من الإيغال في الجرم، واستباحة شعبه، مثل ما بلغ الأسد. وهذا هو الفرق بين الجرائم العادية -مهما كانت بشاعتها- والجرائم ضد الإنسانية التي تتجاوز كل حدود، مثل جرائم بشار الأسد. ومن منظور التاريخ الإسلامي لا يستطيع مسلم أن يتخيل القائد العظيم صلاح الدين، أو القائد العظيم بيبرس، وهو يتحالف مع المغول في مسعاه لتحرير فلسطين من الصليبيين، في الوقت نفسه الذي يجتاح فيه المغول حواضر الإسلام بعاصفتهم الدموية، ويحولونها أرضا يبابا بعد أن كانت نابضة بالحياة!
وحاصل الأمر أننا إذا تركنا الاعتبارات الأخلاقية جانبا، فإن الاعتبارات الإستراتيجية -كما تبدو لنا- لا تزكي قرار حماس بالتصالح مع الأسد. والظاهر أن إيران ورطت حماس في هذا الطريق المعتم الذي قد يكسب منه نظام الأسد غسلا لبعض سوءاته، وتخسر فيه حماس رأس مالها المعنوي وعمقها الإسلامي. وما كان الأمر ليتجه هذه الوجهة المعتمة لو لم تفقد قيادة حماس في الأعوام الأخيرة حاستها الإستراتيجية، تحمسا لمكاسب سياسية وعسكرية تكتيكية لن تغير من مصائر القضية الفلسطينية، لأنها قضية تتشابك فيها المؤثرات المحلية والإقليمية والدولية، وتتداخل فيها الحروب الدينية ضد المسلمين مع المطامح الإمبراطورية الموروثة من أيام الاستعمار.
إنما ستتغير مصائر القضية الفلسطينية في اتجاه التحرير باندراجها ضمن حركة التحرر السياسي العربي التي بدأت في خواتيم العام 2010، وهي حركة لا تزال في بداياتها. ويبدو أن حركة حماس في مسيس الحاجة اليوم إلى إعادة النظر في إستراتيجيتها الكلية، لمزيد من التأمل في العلاقة بين القضية الفلسطينية وبيئتها الإستراتيجية، والعلاقة بين المنجزات التكتيكية الظرفية والمطامح الإستراتيجية الكبرى، حتى لا تعود المنجزات العابرة الصغيرة على القضايا المصيرية الكبرى بالنقض والهدم. فتحرر دول الطوق العربي من الاستبداد -وأولها سوريا ومصر- هو وحده الذي سيغير البيئة الإستراتيجية المحيطة بفلسطين، ويضع ملحمة الشعب الفلسطيني على طريق التحرير الحقيقي، وهذا يعني أن التعويل على شعوب دول الطوق -مهما تكن ظروف ضعفها اليوم- هو الأولية التي لا يضاهيها سواها، لأن تلك الشعوب ستظل الحاضنة الطبيعية للقضية الفلسطينية في نهاية المطاف.