سمية راشد الغنوشي // نبغ القرضاوي بين أقرانه الأزاهرة منذ بواكير طفولته، وتميز بقوة الحافظة واتقاد الذهن والقدرة على الاستيعاب وسلاسة التعبير. جمع بين مختلف حقول المعرفة الإسلامية ببراعة وعمق منقطعي النظير، فكان فقيها مع الفقهاء ومتكلما مع المتكلمين وفيلسوفا مع الفلاسفة ولغويا مع اللغويين وشاعرا مع الشعراء ومفكرا مع المفكرين. هو موسوعي قلّ نظيره في هذا العصر، يذكرك بعمالقة الإسلام الموسوعيين، كالغزالي وابن تيمية وابن رشد.
هو سليل المدرسة الإصلاحية التي زرع بذورها الشيخ جمال الدين الأفغاني أواسط القرن التاسع عشر، ومن بعده تلميذه الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا، مدرسة تتسم بالجمع بين التجذر في التقاليد العلمائية الإسلامية والاطلاع على معارف العصر والسعي للتفاعل مع قضاياه وأسئلته الكبرى. القرضاوي ابن وفيّ لهذه المدرسة وإضافة كبرى في خطها التجديدي والإصلاحي.
أحيا ميراث العقلانية الاسلامية بمختلف تعبيراتها ومواردها في مدارس التفسير والأصول والفلسفة والفقه. لم يكن فقيها منزويا في محرابه، غارقا في بطون المتون وحواشيها، كان عالما عاملا جمع بين الفكر والعمل، وبين البراعة الفقهية والتبصر بقضايا عصره ومتطلبات زمانه. وبقي وفيا لنموذج العالم المستقل المؤتمن على حمل أمانة الإسلام والذود عن مصالح أمته، رغم ما لحقه من أذى، سجنا وتهجيرا وتشويها.
اختط لنفسه منهجا ثابتا في النظر والسلوك، أسماه الوسطية، أي شق طريق وسط بين التشدد في قراءة النصوص والتسيب المنفلت من ضوابط الشرع وثوابته المحكمة، منهج يؤثر التيسير على التشديد والتبشير على التنفير
اختط لنفسه منهجا ثابتا في النظر والسلوك، أسماه الوسطية، أي شق طريق وسط بين التشدد في قراءة النصوص والتسيب المنفلت من ضوابط الشرع وثوابته المحكمة، منهج يؤثر التيسير على التشديد والتبشير على التنفير، ويأبى مع ذلك الوقوف في المنطقة الرمادية حين يقتضي الأمر الحسم والوضوح.
لذا لقي القرضاوي عنتاً شديدا ورفضا حادا من خطين متقابلين..
الأول، خط التشدد الديني التقليدي بالغ التزمّت في مسائل الدين، بالغ التساهل في مسائل السياسة والحكم. دافع القرضاوي عن الحاكم الوكيل المفوض عن الأمة بالشورى وسلطان القانون، فيما انبرى مشايخ السلفية الرسميون ينافحون عن مبدأ الطاعة المطلقة لولي الأمر ويسفّهون من يقيّد أيدي الحكام.
لذا حركت بعض ممالك النفط جهازها الديني الرسمي لمهاجمة القرضاوي والتعريض به على منابر المساجد والتشهير به في وسائل الإعلام. ومضت أبعد من ذلك، فاصطنعت جماعات دينية متشددة عنيفة مكلفة بمواجهة مدرسة القرضاوي الإصلاحية المستنيرة، ومنها المداخلة ومشتقاتهم، الذين انبروا يكفرون القرضاوي ويستحلون دماء دعاة الحرية في أكثر من موقع من العالم العربي.
التقت على القرضاوي ومدرسته قوى التشدد والتحلل، فكان هدفا لمتعصبي العلمانية على الجهة المقابلة، ممن لا يرون للإسلام موقعا في الحياة الخاصة أو العامة
التقت على القرضاوي ومدرسته قوى التشدد والتحلل، فكان هدفا لمتعصبي العلمانية على الجهة المقابلة، ممن لا يرون للإسلام موقعا في الحياة الخاصة أو العامة. كفّر هؤلاء القرضاوي على طريقتهم، فوصموه بالتطرف والإرهاب.
أسس القرضاوي لقيمة الحرية باعتبارها مقصدا من مقاصد الإسلام، لا مجرد حاجة تحسينية فرعية. تسري في كتاباته وفتاواه وخطبه روح تحررية لا تخطئها عين، لا ينفك يردد بأن الحرية قيمة سامية لا غنى للمرء ولا للأسرة ولا للمجتمع ولا للأمة عنها.
أصّل للديمقراطية داخل الإسلام وفق آلياتها المعروفة في تقييد الحاكم بسلطان الدستور والقانون، والتداول السلمي على السلطة وتعددية الأحزاب والمنظمات، واستقلالية القضاء والإعلام والصحافة، عبر تقريبها من معاني الشورى العامة والملزمة.
تبنّى مفهوم المواطنة الجامعة وحقوق الأقليات الدينية في مجتمع مسلم حر ومفتوح وتعددي، فكان حقا عالما مجددا في السياسة الشرعية.
ولمزجه بين العلم والعمل، أنشأ مؤسسات ومشاريع رائدة، منها الاتحاد العالمي للمسلمين الذي جمع آلاف العلماء والمفكرين من مختلف أصقاع العالم الإسلامي، ناهيك عن المجلس الأوروبي للإفتاء الذي يقدم الاجتهادات الفقهية للقضايا المستحدثة للأقليات الإسلامية في أوروبا.
أصّل للديمقراطية داخل الإسلام وفق آلياتها المعروفة في تقييد الحاكم بسلطان الدستور والقانون، والتداول السلمي على السلطة وتعددية الأحزاب والمنظمات، واستقلالية القضاء والإعلام والصحافة، عبر تقريبها من معاني الشورى العامة والملزمة
في عمله الموسوعي "الجهاد في الإسلام" أعاد القرضاوي مفهوم الجهاد إلى معانيه الشرعية، متصديا لجماعات العنف والإرهاب التي اختطفت مفهوم الجهاد وحولته إلى قتل وعنف دموي. اعتصم بالخط الإصلاحي السلمي ورفض موجات التشدد ببصيرة الفقيه ومسؤولية العالم.
دافع عن المرأة المسلمة ومشاركتها في الحياة العامة، وحقها في تولي المواقع العليا في الدولة، بجرأة مبهرة وسط محيط ديني واجتماعي محافظ لا يستسيغ هذه المفاهيم والمقولات.
ناصر ثورات الربيع العربي وناهض الحكم الدكتاتوري فكرا وعملا، فأجج عليه العداوات وحملات الشيطنة الممولة من معسكر الاستبداد العربي.
وظلت فلسطين والقدس في صدارة اهتمامه، فبات هدفا لأنصار الاحتلال ولوبيات إسرائيل حول العالم.
"بيننا وبينكم يومُ الجنائزِ".. تحضرنا مقولة الإمام أحمد بن حنبل، ونحن نشهد لوعة ملايين المسلمين على فقدان القرضاوي. لقد هزمهم العلامة حيا وميتا: هزمهم حيّا بفقهه المستنير وأفكاره التجديدية التي سرت في شرايين الجسد الإسلامي، رغم الحصار الخانق المضروب عليها، وهزمهم ميتا بما خلفه من ميراث عظيم سيظل نبراسا يضيء درب الأمة ويصوّب مسيرة أجيالها المتعاقبة