بقلم : محمد محفوظ ولد أحمد // كان الدكتور يوسف القرضاوي - رحمه الله - عالِما "حيا" ثاقب الفهم بقدر حمولة العلم والثقافة، مؤمنا بأن الإسلام دين ودولة، كما يقول إمامنا بداه ابن البصيري رحمه الله: "دين بلا سياسة لا يستقيم وسياسة بلا دين عار الدنيا ونار الجحيم"
ورغم ما تعرض له من السجن والقمع والإبعاد، ظل القرضاوي آخذا بالوسطية والاعتدال رافضا التطرف والتحلل، مهموما بقضايا الأمة، جاعلا من قضيتها المركزية، وهي احتلال فلسطين، محور اهتمامه.
ولأنه كان صوت الدعوة الإسلامية المعتدل وداعية الإصلاح الجامع، فقد كانت علاقته طيبة بمعظم الزعماء والقادة العرب، رغم ما يأخذ عليهم وينتقد من الاستبداد والفساد.
إلا أنه حين ثارت شعوب عربية على طغاتها؛ مطالبة بالحرية والعدالة والإصلاح، وكان الرد بالقمع والقتل والتعنت... اختار القرضاوي دون تردد نصرة الحق وطريق الحقوق والوقوف مع تلك الشعوب ضد جلاديها المحنطين الذين أخذتهم العزة بالإثم.
ومن يومها والرجل هدف للنقد والسب والشتم والاتهامات الباطلة والسخيفة في بعض الأحيان! فقد جند أنصار الديكتاتورية العرب أتباعهم لذلك، وجردت "الثورات المضادة" سيوفها على الرجل، حتى اتهموه بأنه قاتِل كل من قتلوه ومهرِق كل دم سفكوه وهادِم كل بناء دمروه...
بل زعموا أن حلف شمال الأطلسي الغربي الاستعماري يأتمر وينتهي بفتاويه ويصلي خلفه!
ومع سخافة هذه التهم واستحالتها أصلا، فإنها تجد من يصدقها ويستحسنها من أتباع أتباع مروجيها من يتامى الطغاة المستبدين العرب؛ تماما كما يصدقون ويستحسنون "بطولات" وشعارات أولئك المستبدين، رغم أنهم ـ طول الزمن ـ لم يجدوها شيئا سوى سراب بقيعة!
وفي الواقع فإنه ما كان لشخصية علمية مؤثرة تأثير القرضاوي؛ تتركب رؤاها ومواقفها من العلم والسياسة، ولا تكتم "إخوانيتها" الفكرية والسياسية، أن تنجو من مكر أي ديكتاتور عربي وحنق أنصاره، ولا أن تسلم من عداوة العلمانيين العربيين؛ سواء كانوا ليبراليين أو قوميين.
ظل الشيخ القرضاوي مسالَما "آمنا"؛ بل ومقدرا من جميع الأنظمة العربية تقريبا، لما يرى الجميع من علمه وبذله واعتداله ورؤيته الإسلامية الإصلاحية المعتدلة... إلى أن اندلعت ثورات الربيع العربي وأطاحت بعتاة الاستبداد من الحكام العرب وهددت آخرين، لولا أن تداركوا أنفسهم أو تداركتهم الثورات المضادة المدعومة بقوة من الغرب (الذي يعمل بفتاوى القرضاوي!)، فاستنكر هو بقوة القمع والقتل الذي استحر في المنتفضين على حكامهم، فأيد إزاحتهم عن أعناق شعوبهم.
ومن المتناقضات الكاشفة أن الإعلام العربي الخليجي، يتصدر حتى اليوم (باستثناء قطر التي انتقد علنا بعض مواقفها رغم أنها تؤويه) حملة الافتراء والتشويه على الشيخ القرضاوي؛ بل تصنفه اليوم "إرهابيا"، وكأنه ليس نفس العالم والداعي الذي نال هناك أعظم الجوائز والتكريم؛ مثل جائزة الملك فيصل العالمية (مع سيد سابق) 1994م، وشخصية العالم الإسلامية في الإمارات العربية المتحدة (جائزة دبي للقرآن الكريم) 2000م وغير ذلك من الجوائز العامة والخاصة!
وقد غاب خبر وفاته، الذي تصدر وسائل الإعلام العالمية، في معظم وسائل الإعلام الخليجية (باستثناء القطرية طبعا). وجاء في ذيل موقع قناة "العربية" وسليلتها "الحدث" بذات النص! هكذا:
((توفي القيادي الإخواني الدكتور يوسف القرضاوي عن عمر ناهز 96 عاماً... ذكر أن القرضاوي هو الرئيس السابق لما يسمى "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"))!! قبل تأليف مقطع في انتقاده وتصنيفه منظرا للإرهاب...، ولكن في جميع الأحوال دون أي إشارة إلى علمه أو فكره أو كتاباته أو جوائزه في المملكة السعودية وغيرها...!
وهكذا يلتقي "التقدميون" والرجعيون في رمي الشيخ القرضاوي عن قوس واحدة!!
لقد عاش الشيخ القرضاوي عمرا مديدا استهله بالنضال السياسي ومقارعة الظلم والاستبداد؛ فدخل السجن وسيم العذاب على مواقفه ورأيه. ثم اغترب لينجو بروحه ويحافظ على مبادئه. فكان، على مدى سبعين سنة، غيثا مغيثا للساحة العلمية والفكرية والأدبية؛ بما درَّس من علوم أكاديمية، وما دون من مؤلفات نافعة، وما بث من محاضرات وبرامج مصلحة، وما بسَّط ويسر من غامض الفقه، وما برأ من اجتهاد في فقه القضايا المعاصرة والنوازل العالمية، والحلول الاقتصادية الإسلامية، وما جمع من آراء متنافرة ومواقف متشاكسة بين علماء المسلمين وما قرَّب من مسافات شاسعة بين طوائفهم المختلفة، وما أسس من جمعيات وهيئات علمية وإنسانية...
وعَدِّ إن شئت عن "الفتى" القرضاوي الشاعر المفلق، والكاتب الأديب، والمؤرخ الأمين والفيلسوف الحكيم...
والبرهان قريب، هنا في مكتبتي التي انتفعت ببعض مؤلفاته القيمة.
فأي عالم أو شخصية في أفق عصرنا جمعت كل أولئك... سوى هذا العالِم الاستثنائي: الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي عليه رحمة الله وسلامه؟
م. محفوظ أحمد