بقلم : إبراهيم الدويري// لئن كان أهل العصور الإسلامية الأولى ازدهوا بأعلام علماء جعلوهم مفاخر زمانهم ومجدّدي قرونهم وباهوا بهم مَن قبلهم ومَن بعدهم من العصور والقرون؛ لما لهم من بالغ التأثير وخالد الآثار في حفظ الدين وتعليم الشرع وتنبيه العقول وإيقاظ القلوب وتزكية الأنفس، فإن الآتين سيتوقفون في تأريخهم لهذا القرن مع "سيرة ومسيرة" فتى ولد يوم الخميس الثاني من ربيع الأول 1345 هجرية في قرية متواضعة تسمى صفط تراب مركز المحلة الكبرى بمحافظة الغربية في مصر. لن يحتاج مؤرّخو هذا القرن في العالم الإسلامي من الأحياء الآن والآتين من بعدهم لأكثر من استعراض حياة مجدده الإمام يوسف القرضاوي لتتراءى لهم الأحداث المفصلية واللحظات الحاسمة التي حدثت فيه. عناية إلهية حين أقبل ذلك الطفل سماه أبوه يوسف، فأخذ من ذلك الاسم المبارك فأل العناية الإلهية التي أحاطت بنبي الله الكريم يوسف بن يعقوب عليه السلام فرافقته من الجُبِّ إلى عرش مصر، وهكذا سار يوسف القرضاوي من تلك القرية الوادعة تلاحظه عيون الكرامة حتى تربّع على عرش العالم الإسلامي أجمع علما وإرشادا وتوجيها وجهادا وتضحية وبذلا ووفاء. لن يحتاج مؤرّخو هذا القرن في العالم الإسلامي من الأحياء الآن والآتين من بعدهم لأكثر من استعراض حياة مجدده الإمام يوسف القرضاوي لتتراءى لهم الأحداث المفصلية واللحظات الحاسمة في القرن، فمن حياته المباركة سيعرفون طبيعة محورية الدين في قرى مصر وطبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية فيها، ومعالم التعليم وطبيعة التحصيل في المعاهد الأزهرية وغيرها، وتوجّه القرّاء وقيمة الكتب وندرتها، وخصائص التكوين العلمي لجيل من الأعلام أثروا بأقلامهم في مسيرة الأمة وتكوين ملكاتها الأدبية والفكرية، كما سيقرأ المؤرخون من خلال حياة القرضاوي الرواية الأصح والأدق لتضحيات آلاف الأبطال الذين أيقظ فيهم الإمام الشهيد حسن البنا عزة الإسلام والغيرة على الأمة، فانتشروا في مصر والعالم الإسلامي وغيره يحملون النور الإلهي والهدي النبوي للبشرية ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، ترميهم الناس بالحجر فيرمونها بالثمر. إن أراد المؤرخون أن يقدموا نموذجا في هذا القرن لعلّامة لم تنل المحن من عزيمته وفكره فلن تجد مثالا أوضح من الشيخ القرضاوي. وسطيّ في قلب المعركة في قصة هؤلاء الأبطال ومحنهم المتوالية في السجون والمنافي لأكثر من قرن لم يكن القرضاوي فيها متفرجا ناقلا لحكايات باردة وبطولات مُدَّعَاة، بل كان في خضم المعركة ومعمعان الميدان سجينا أو شريدا، وحين استبدّ به الهرم وقامت المحنة الأخيرة مع الثورة المضادة أوذي الإمام القرضاوي في بضعة منه هي بنته السيدة علا لتكون مع المجاهدين والسجناء مع ما يناله هو يوميا من الإفك والإثم والتقوّل، فمن كان اسمه يوسف ووارثا للأنبياء لا بد أن ينال من المدرسة اليوسفية حظه ومن الابتلاءات نصيبه. إن أراد المؤرخون أن يقدموا نموذجا في هذا القرن لعلّامة لم تنل المحن من عزيمته وفكره، فلن تجد مثالا أوضح من الشيخ القرضاوي. فرغم ما أصابه من أذى ويصيبه من انتقام وتحامل، بقي وسطيّ الفكر ونقي النفس متعاليا على الانتقام، فالقرضاوي بلا منازع إمام الوسطية في عصر توزّعه الانحلال والغلوّ العلماني والديني، وكل الذين صنفوه ورموه بتهمة التطرف والإرهاب من الحكام ومن يدور في فلكهم فهم عالة على كتبه وتنظيراته في تحرير المفاهيم الإسلامية الصحيحة في فهم القرآن وضوابط التعامل مع السنّة وأصول فقه الحلال والحرام ومستجدات الزكاة المعاصرة والحج ونوازله، ومقاصد السياسة الشرعية وفقه الأقليات وغيرها من القضايا التي كانت فتاويه وتقريراته مرجعا فيها لدى المجامع الفقهية. وفي النكبة ونازلة حرب الخليج والثورات العربية الباسلة وتطور التعليم في قطر وتأسيس معهد نموذجي بها ومواقف أهل قطر والخليج من موت جمال عبد الناصر، يمكن للمؤرخ أن يراجع مواقف القرضاوي وجهوده ليرى بأم عينه تاريخا واضح المعالم بارز القسمات، وهو بحياته ومرجعيته العالمية يمكن لمؤرخي الاجتماعيات ونوازل الفقه وأدب الرحلات أن يروا في مسيرته الحافلة تطور هذه القضايا في أصقاع العالم الإسلامي من المغرب الأقصى والجزائر إلى الشرق الأقصى ودول آسيا الوسطى والشام والعراق وبلاد الأناضول واليمن وشرق أفريقيا، فقد عايش المجدد القرضاوي في كل هذه الأقطار قضايا المسلمين وهمومهم وزارهم وزاروه. شهدت زيارته لماليزيا عام 2009 حين فاز بجائزة الهجرة النبوية التي تمنحها ماليزيا للمتميزين في خدمة الإسلام والسيرة النبوية، فرأيت الفرحة والبشر على وجوه عجائز الملايو وأطفالهم ابتهاجا بمقدم هذا الإمام مزدحمين على محاضراته. وفاء الأعلام وفي تاريخ الأعلام ومناقب المعاصرين الذين عرفهم الشيخ القرضاوي، تجد أخبارا جميلة نادرة عن 89 علَما أودعها الشيخ في سفره العظيم "في وداع الأعلام"، بدأهم بمستحق التقديم الإمام حسن البنا وثنّى بمحمد عبد الله دراز وثلّث بالمجاهد الفضيل الورتلاني، ثم واصل في الوفاء لأعلامهم، عرفهم من شتى الاتجاهات والأقطار الإسلامية، وقد كافأه تلامذته وأصحابه على ذلك الوفاء الجميل والخلق النبيل، فكتبوا عنه وهو حي مئات البحوث والمقالات العلمية جاءت في 1068 صفحة بمناسبة بلوغه السبعين. تلك المقالات التي كتبها أعلام كبار عن إمام العصر يكفي إلقاء نظرة على فهرستها لنعرف المدى الذي بلغه يوسف القرضاوي والمنزلة التي نالها ابن القرية والكتّاب، فقد ضمّ ذلك السفر الضخم مقالا لفضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله بعنوان "يوسف القرضاوي سبق سبقًا بعيدًا" والداعية الإسلامي الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله بعنوان "القرضاوي من كبار العلماء والمربّين"، والمحدث العلامة الراحل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة بعنوان "فقيهنا ومرشدنا العلامة الشيخ يوسف القرضاوي"، والفقيه مصطفى الزرقا بعنوان "القرضاوي حجة العصر وهو من نعم الله على المسلمين"، وفضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار بعنوان "يوسف القرضاوي"، والأستاذ كامل الشريف بعنوان "يوسف القرضاوي على قمة السبعين"، والدكتور حسان حتحوت بعنوان "البواكير"، والدكتور حسن الترابي بعنوان "العالم الدكتور يوسف القرضاوي"، والدكتور إسحاق أحمد فرحان بعنوان "الشيخ يوسف القرضاوي عالمًا فذًّا ومجددًا مصلحًا". كما كتب فيها الأستاذ العلم القائد عصام العطار بعنوان "يوسف القرضاوي وكفى"، والدكتور عبد الله عمر نصيف بعنوان "القرضاوي.. قمة في العطاء"، ومؤرخ الحركة الإسلامية عبد الله العقيل بعنوان "رجل المرحلة وفقيه العصر"، والقاضي محمد تقي العثماني بعنوان "فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي كما أعرفه"، وفضيلة الشيخ حسين أحمد القاضي بعنوان "الفقيه الداعية العلامة الشيخ يوسف القرضاوي مدرسة علمية وفقهية ودعوية"، والدكتور أحمد محمد الأصبحي بعنوان "كلمة وفاء"، ومولانا الشيخ عبد الله بن بيه بعنوان "القرضاوي إمام من أئمة المسلمين"، وهي كثيرة يجمعها كلها إجلال الشيخ القرضاوي والتنويه بجهوده. ولقد شهدت زيارته لماليزيا عام 2009 حين فاز بجائزة الهجرة النبوية التي تمنحها ماليزيا للمتميزين في خدمة الإسلام والسيرة النبوية، فرأيت الفرحة والبشر على وجوه عجائز الملايو وأطفالهم ابتهاجا بمقدم هذا الإمام مزدحمين على محاضراته، كما أن زيارته لموريتانيا أخرجت الإمام الولي والعلامة الزاهد محنض بابه ولد أمين من عزلته الغزالية التي ضربها على نفسه منذ أكثر من 80 عاما ليرى هذا المجدد ويحاوره، وكان الشيخ محنض بابه في عزلته بصحراء شنقيط يعزو لكتب القرضاوي خصوصا في فقه الزكاة. وفي هذا اليوم 30 صفر 1444هـ يرحل الإمام القرضاوي عن دنيا ملأها بالخير والدعوة والاجتهاد والتجديد بأعمال تطبع في 100 مجلد، لكن مناقبه وجهوده وأدواره وآثاره لن تسعها المجلدات، وستبقى حية في وجدان المسلمين كما بقيت آثار أسلافه من الأئمة الأربعة والمصلحين قديما وحديثا، فنم يا سيّد قرير العين، وامرح في جنة الخلد، وانشد بين يدي سيدنا وقائدنا محمد صلى الله عليه وسلم قولك: يا سيد الرسل طب نفسًا بطائفة باعوا إلى الله أرواحًا وأبدانا قادوا السفين فما ضلّوا ولا وقفوا وكيف لا وقد اختاروك ربَّانا؟! أعطوا ضريبتهم للدين من دمهم والناس تزعم نصر الدين مجانا أعطوا ضريبتهم صبرًا على محن صاغت بلالًا وعمارًا وسلمانا عاشوا على الحب أفواهًا وأفئدةً باتوا على البؤس والنعماء إخوانا