محمد الحافظ الغابد: منذ اليوم الأول للعلاقات الموريتانية الإسرائيلية اكتنف الغموض هذا المسار حتى تحول إلى لغز فما الذي دفع موريتانيا للإصرار على ربط علاقاتها بدولة الكيان الصهيوني خصوصا وأن موريتانيا تعتبر من الدول العربية الرائدة في مجال تقويض جهود الدبلوماسية الإسرائيلية في افريقيا خلال حقبة السبعينيات حيث سعت موريتانيا إلى قطع عشرات الدول الإفريقية اتصالاتها بدولة الكيان الصهيوني وكانت تكتب على جواز السفر خلال حقبة الثمانينيات يمنع على حامل هذا الجواز دخول (اسرائيل+جنوب افريقيا) كما أن موريتانيا في حرب أكتوبر 1973 كانت القطر العربي الوحيد الذي قطع علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية احتجاجا على الدعم الأمريكي لإسرائيل.
فما الذي جعل النظام الموريتاني ينقض غزل الأنظمة السابقة ويمزق نسيج إرث الدبلوماسية الموريتانية المجيد الملتزم بوحدة الصف العربي ويعمل على الارتماء في أحضان الكيان الإسرائيلي في ظرف وصل فيه الإجرام الصهيوني لمستويات جديدة من القمع والتنكيل بالفلسطينيين والتراجع عن كل العهود والمواثيق التي ربطته بالسلطة الفلسطينية. ذلك ما سنحاول الإجابة عن أبعاده وتداعياته من خلال المحاور التالية:
أولا: سياق العلاقة ودوافعها
ثانيا: مسار تطور العلاقات لمستوى السفراء
ثالثا: مجالات التطبيع
رابعا: مواقف مقاومة التطبيع
خامسا: تجميد هذه العلاقات والمآل المستقبلي
سادسا: ختام
أولا: سياق العلاقة ودوافعها: رفضت موريتانيا منذ الستينيات خلال رحلة البحث عن الاستقلال عروضا اسرائيلية بالاعتراف المتبادل ودعم الإسرائيليين للقضية الموريتانية التي واجهت في البداية تعثرات نتيجة مطالبة المغرب بموريتانيا بوصفها جزئا من التراب المغربي وهو المطلب الذي انقسمت حوله النخب الموريتانية مما قوى أطماع المغرب بموريتانيا وجعل الدول العربية تنقسم بشأن موريتانيا غير أن ساسة موريتانيا الساعين لاستقلالها رفضوا رفضا باتا هذه العروض التي حملها محام اسرائيلي للرئيس المختار وتكررت مع مسئولين موريتانيين في سياقات متعددة. (1).
وتجاوزت موريتانيا عقبة الاستقلال فكانت من أنشط دول العالم العربي في دعم القضية الفلسطينية وفقا لإمكانياتها وقدراتها بل إن جل الدارسين لأدوارها الدبلوماسية يعتبرونها قامت بجهد يتجاوز طاقتها غير أن ظروف السياسة وتحولات الموقف العربي في التسعينيات ما بعد احتلال العراق للكويت وما نتج عن مواقف الدول الطرفية التي انخرطت كلها آن ذاك في سياق الوقوف إلى جانب العراق في تلك الأزمة مما جعل الدول الخليجية توقف جزئا كبيرا من تعاونها مع النظام الموريتاني الذي يسير من جانب آخر ملف علاقة مضطربة مع جيرانه الشماليين (المغرب والجزائر) ويعرف في مطلع التسعينيات تحديدا خروجا منهكا من ملف الصراع مع السنغال وما تبعه من صراع مع حركة تحرير الزنوج الموريتانيين(أفلام) أوجبهة "المشعل الإفريقي" والتي تشير بعض التحليلات إلى أن النظام الموريتاني اندفع لربط العلاقات مع اسرائيل استباقا لخطوات بدأتها حركة تحرير الأفارقة من خلال علاقات نسجتها مع الإسرايلين لحصول على دعمهم في مبتغاها لإقامة مشروع الدولة الذي تركت من أجله عبر محاولات انقلابية كانت قيد الإنجاز في العام 1987. (2)
السياق العربي المنهك بعد حرب الخليج والتحديات الداخلية المتعلقة بالصراع مع الحركات السياسية ووجود صعوبات اقتصادية وتحول عاصف من نمط الحكم العسكري إلى الانفتاح الديمقراطي في إطار البحث عن مخرج يحمي من العزلة الدبلوماسية وانعدام النصير الجاد من الحلفاء التقليديين كلها عوامل دفعت بالنظام الموريتاني لفتح صفحة جديدة كانت مغلقة مع الكيان الإسرائيلي المحتل في سياق مصالحة عربية مع اسرائيل قادته منذ العام 1992 منظمة التحرير الفلسطينية وقاد إلى اتفاقية –غزة أريحا أولا- وما ترتب عليها من اقامة السلطة الفلسطينية طبقا لاتفاقيات مباحثات مدريد للسلام العربي الإسرائيلي وقد بدأت هذه العلاقات وفقا لاتصالات سرية بدأت من الرباط مرورا بمدريد ونيويورك وبرشلونة توجت أخيرا تلك الاتصالات واللقاءات بإقامة مكتب للاتصال بعد لقاء وزير الخارجية الموريتاني محمد ولد أكحل وشيمون بيريز وزير الخارجية حينها ولم يكتمل مسار هذه العلاقات التي واجهت الكثير من الاحتجاج داخل موريتانيا وخارجها ونظر إليه العرب بمستوى كبير من الاندهاش والريبة إلا في أكتوبر 1999م حيث تم رفع مستوى التمثيل للسفراء. أما على مستوى الطرف الإسرائيلي فقد كانت هذه العلاقات فضلا كونها جزئا من أجندة استكمال التطبيع مع كافة الدول العربية تندرج أيضا في اطار مشروع الشرق أوسطية أو الشرق الأوسط الجديد الذي روج له آن ذاك شيمون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي في كتاب شهير صدر في هذه الحقبة بنفس العنوان:"الشرق الأوسط الجديد" ويوضح كيف أن اسرائيل وهي تنموا وتتطور لابد أن تكون ضمن بيئة ووسط يمكنها من النمو والتطور خصوصا مع تجربة الرفض العربي والإسلامي ولذلك فإن خلق هوية شرق أوسطية بالأساس تكون بديلا عن الهوية العربية الإسلامية هو المدخل المناسب لإعادة بناء الثقة بين أطراف الصراع العربي الإسرائيلي الذين باتوا يدركون بشكل حسي أهمية العيش المشترك لتجاوز مرارات الماضي. وكانت من أكثر الدول التي استفادت من المؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا المعروف باسم مؤتمر "مينا" والذي عقد أربع مرات (في البيضاء سنة 1994 وفي عمان 1995 وفي القاهرة 1996 وفي الدوحة سنة 1997). وبلغ حجم المبادلات التجارية بين إسرائيل والدول العربية حوالي 99.1 مليون دولار سنة 2000 مقابل 91.3 مليون دولار سنة 1998، بينما تراجعت الصادرات الإسرائيلية إلى الدول العربية بنسبة تقارب 4%.. (3)
ولذلك فإن اسرائيل تسعى بكل قوة لتطبيع علاقاتها مع كل دول المنطقة والإقليم وجواره الجغرافي والسياسي خدمة لهذه الرؤية التي تتأسس على السلام والتنمية وتشغيل آليات التكامل الاقتصادي والتطبيع الدبلوماسي بوصفها دولة افريقية آسيوية واستطاعت أن تؤسس منذ مطلع الستينيات مؤسسات ذات طبيعة اقتصادية لتشكل أهم آلية لإيقاع الدول الإفريقية في مصيدة التطبيع ولذلك فقد ظل مدخل التطبيع الابتدائي دائما هو انشاء مكاتب اتصال لرعاية المصالح الاقتصادية ثم ينتهي بعد فترة باستكمال جوانب العلاقات الدبلوماسية. (4)
ثانيا: مسار تطور العلاقات لمستوى السفراء بعد مرحلة الاتصالات الأولى وما ترتب عليها من انشاء مكتب بالمغرب لرعاية المصالح بين البلدين في 1992 تطورت العلاقات لمستوى جديد في العام 1996 لتأخذ صيغة تمثيلية أقوى من خلال تعيين جابريل أزولاي مكلفا بتطوير العلاقات وترسيخها من خلال مكتبه الذي يقع ضمن مقر سفارة اسبانيا في نواكشوط مما أعطى لهذه العلاقات صيغة من الجدية ودفع بها إلى الأمام بشكل أوسع من ذي قبل. وفي العام 1997 برزت للوجود أولى ثمار المكتب الجديد حيث شارك ثلاثة اسرائيلين في مؤتمر علمي بجامعة بنواكشوط يناقش تحديات بيئية لأول مرة مما أثار الكثير من السخط في الأوساط الطلابية والجامعية. وفي العام 1998 اتهمت المعارضة الموريتانية النظام الموريتاني بالتستر على دفن النفايات النووية في عمق الصحراء الموريتانية مما قاد النظام الموريتاني لسجن قيادات المعارضة بمن فيهم زعيم المعارضة حينها رئيس حزب اتحاد القوى الديمقراطية عهد جديد أحمد ولد داداه وقيادات حزبية أخرى عديدة. وفي السادس والعشرين من يناير 1999 نقلت صحيفة "الأحداث" المغربية عن "مصادر مطلعة" قولها إن اتفاقا أبرم بين القيادة الموريتانية وإسرائيل تتخذ إسرائيل بموجبه من الصحراء الموريتانية الفسيحة مدفنا لنفاياتها النووية. (5) وفي الحادي عشر من يوليو (11/7/1999) زار وفد طبي نواكشوط لإجراء عمليات لعيون بعض المرضى الموريتانيين ومن أعضاء الوفد الطبيب "إيريت روزمبلات" والطبيبة "آنات روبنسون" وشهدت هذه الزيارة الصفعة الشهيرة التي نفذها الشاب الزايد ولد الخطاط للطبيب روز امبلات احتجاجا على الزيارة. غير أن أقوى رافعة لاستكمال مسار التطبيع مع اسرائيل جاءت على اثر الأزمة الدبلوماسية العاصفة بين موريتانيا وفرنسا بسبب اعتقال الفرنسيين الضابط المتدرب اعل ولد الداه في يونيو حزيران 1999 على خلفية تهم بضلوعه في تعذيب السجناء العسكريين الزنوج أثناء أحداث الدامية 1989 بين موريتانيا والسنغال. ووصل مسار التطبيع في الثامن والعشرين تشرين الأول أكتوبر 1999 إلى قرار البلدين رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي للسفراء وأعلن عن الخطوة في نيويورك برعاية ومباركة وزيرة الخارجية الأمريكية ما دلين أولبرايت وصرحت على هامش المؤتمر الصحفي الذي نظم للإعلان الخطوة :"إن هذا الاتفاق سعود بثمرات طيبة على الشعب الموريتاني". ومن هنا بدأ المسار المطبع للنظام الموريتاني في الازدهار فقد زار وفد من الكنيست الإسرائيلي موريتانيا في شهر أبريل/نيسان 2000 وضم الوفد أعضاء الكنيست: نعومي شازان من حزب "ميرتس"، وماكسيم ليفي من كتلة "إسرائيل واحدة"، وجيدون عزرا من حزب "الليكود"، وهاشم محاميد من حزب "اللائحة العربية الموحدة". واستقبل الرئيس الموريتاني وفد الكنيست الإسرائيلي في قصره، كما تم تأسيس جمعية للصداقة الموريتانية الإسرائيلية في نهاية الزيارة (جيروزالم بوست 11/4/2000.( (6) وظفت اسرائيل العلاقات من الناحية الإعلامية والدبلوماسية توظيفا قويا لكسر رتابة المقاطعة العربية ولإظهار تمزق الموقف العربي من خلال زيارات المسئولين الموريتانيين في الظروف الحالكة فهاهو الوزير الأول الموريتاني يحط رحاله بتلابيب فور نجاح نتنياهو في الانتخابات الإسرائيلية ووسط موجة السخط العربي على ذلك النجاح. وفي سياق آخر مشابه يقوم وزير الخارجية الموريتاني بزيارة لإسرائيل في أوج الانتفاضة 2000 في سياق الغزو الإسرائيلي وإحكام الحصار على المدن والبلدات الفلسطينية بعد قرار الدول العربية المطبعة تجميد الاتصالات بالدولة العبرية. وكذا حضور السفير الموريتاني في "تل أبيب" الاحتفال السنوي بعيد "استقلال" إسرائيل في مايو/أيار 2003 في أوج مجزرة "جنين" نيسان ابريل 2002 - في الوقت الذي قاطعه سفيرا الأردن ومصر– وتصريحه بأن العلاقات الموريتانية الإسرائيلية لم تتأثر بـ"الأحداث الجارية". وهو الموقف الذي أكدته وزارة الخارجية الموريتانية أن موريتانيا ماضية في طريق السلام ولن تتراجع عنه مهما تطورت الأمور لحد الدمار والخراب.(الرجوع لجريدة الشعب الحكومية...) ولقاء الرئيس الموريتاني معاوية ولد سيدي أحمد الطائع مع "شعمون بيريز"، على هامش قمة الأرض (5/9/2002 ) وهو اللقاء الذي جاء متزامنا مع إعلان "شارون" إلغاء كل الاتفاقات مع الفلسطينيين بما فيها اتفاقات أوسلو. تطورت العلاقات الموريتانية الإسرائيلية فجأة ودون مقدمات، واستحالت تطبيعا شاملا في وقت قياسي لم تكن له سابقة في العلاقات العربية الإسرائيلية، فقد اعتادت القيادات العربية المطبعة التمهل والتستر حفاظا على ماء وجهها، لكن النظام الموريتاني مع هذه العلاقات سلك سبيلا مغايرا. (7) ثالثا: مجالات التطبيع كما رأينا ففضلا عن الأهداف السياسية والإعلامية والدبلوماسية الخادمة لإطار التوازنات التي تفيد العلاقات الدولية والإقليمية فقد كانت لهذه العلاقات مجالات لامسها تعاون البلدين من أبرزها: • التطبيع الأمني : نظرا لكون ترفيع العلاقات الدبلوماسية جاء على خلفية طرد الخبراء الفرنسيين فإن هاجس الحصول من اسرائيل والولايات المتحدة على الدعم في المجال الأمني جعل هذا المجال في الصدارة "وتؤكد مصادر مسؤولة حصول القيادة الموريتانية على الخبرة الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية التي قد تعينها في سياسة البقاء بعد انهيار ثقتها في فرنسا في هذا المجال ".(8) • التطبيع الاقتصادي: لطالما طوعت اسرائيل في خطابها السياسي والإعلامي المدخل الاقتصادي بوصفه أهم حافز لها في اقامة العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية وإفريقيا الملاصقة للعرب جنوب الصحراء وتهدف اسرائيل من خلال تسريع وتيرة التطبيع الاقتصادي إلى كسر حاجز المقاطعة الاقتصادية التي شكلت منذ عقود سياسة عربية ثابتة وإن تهاوت خلال عقد التسعينيات مناعة صمود خيار المقاطعة لصالح جهود التطبيع الإسرائيلية. ويعود طموح إسرائيل بالتوسع في المنطقة إلى الأزمة الاقتصادية التي تعيشها، حيث أن حجم النفقات العسكرية فاقمت مديونية إسرائيل وبلغت 45 مليار دولار ممثلة حوالي 59% من الناتج المحلي الإجمالي، بالإضافة إلى انخفاض معدلات النمو التي وقفت في حدود 5%. وبالنسبة لإسرائيل، تعد الأسواق العربية مدخلا لانتعاش اقتصادها. وكانت من أكثر الدول التي استفادت من المؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا المعروف باسم مؤتمر "مينا" والذي عقد أربع مرات (في البيضاء سنة 1994 وفي عمان 1995 وفي القاهرة 1996 وفي الدوحة سنة 1997). (9) ورغم أن الحصيلة الاقتصادية لهذه العلاقات تبدو هزيلة إلا أن السفير الإسرائيلي في دكار وانواكشوط شلومو آفيتال يؤكد أنه:" لكي تكون العلاقات مهمة عليها أن تكون ذات محتوى لهذا فقد وقعنا اتفاقيات ضمن علاقاتنا المتبادلة ونحن نقوم بالعمل على تقديم المساعدة للشعب الموريتاني خاصة في مجال الزراعة والصحة وإسرائيل تقوم بعمل جيد في هذا الاتجاه ونأمل أن يستفيد الشعب الموريتاني من هذه التجربة ". (10) وتشير العديد من المصادر إلى أن ثمة نشاطا اقتصاديا اسرائيليا يمكن تلخيصه أهم مظاهره في مايلي: - محاولة إدخال السلع الإسرائيلية إلى السوق، وتقديمها إلى المستهلك الموريتاني عبر شركات فرنسية. - أخذ التطبيع الاقتصادي في موريتانيا طابعا احتكاريا لاستخراج وتصنيع خام الليثيوم الذي تمتلك موريتانيا الاحتياطي الأول منه في العالم (وهو خامة كيميائية تدخل في العديد من الصناعات الزراعية والصناعات المتخصصة في مجال الاتصالات). وقد وقعت اسرائيل اتفاقية مع موريتانيا عام 2000 تقضي باحتكارها عملية البحث والتنقيب عن معدن الليثيوم في أراضيها. (11) • التطبيع الزراعي : كان المجال الزراعي من أكثر المجالات التي حاول الإسرائيليون دخولها غير أن الحصيلة في هذا المجال لم تكن أحسن حالا فقد جاء الإسرائيليون لكي يقدموا مساعدات في مجال تطوير زراعة النخيل واستضافت مدينة أطار في شمال موريتانيا إسرائيليين في إطار ملتقى دعا إليه رجل أعمال موريتاني قريب من الرئيس الموريتاني السابق ولد الطايع تحت عنوان "الملتقى الدولي للنخيل الموريتاني". وإثر الملتقى مولت إسرائيل مشروعا صغيرا لحماية النخيل تحت غطاء برنامج الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، وأصيبت واحات النخيل المعالجة بداء يعرف محليا باسم (البيوط). كما ساهم الإسرائيليون بالتعاون مع رجل أعمال موريتاني في مشروع لزراعة البطاطس على النهر قدرت تكلفته بما يعادل 26 مليون دولار تقريبا. (12) • التطبيع الصحي : فقد زارت البلاد منذ بداية التطبيع أربعة وفود طبية إسرائيلية؟ وجاء الوفد الأول للتعرف إلى الأوضاع الصحية، ويعتبر مركز مكافحة مرض السرطان بنواكشوط ذروة ما وصل إليه التطبيع من مراكز ومنشآت ملموسة على الأرض. واحتوى هذا المركز على تجهيزات إسرائيلية وأحيط بالكثير من الحراسة الأمنية المشددة فترة تشييده وشكل فعلا أول مؤسسة تحمل الهوية العبرية من خلال الكتابات العبرية التي تحملها التجهيزات وطبيعة الهالة التي أحيط بها المكان. (13) • تطبيع التدريب والتأهيل : وشهد هذا المجال من التطبيع محاولات واسعة لاستقطاب كم كبير من المتدربين في المجالات العلمية والأكاديمية والإعلامية وزارت وفود موريتانية اسرائيل مشاركة في دورات وملتقيات في مجالات متنوعة كما زارت وفود اسرائيلية البلاد غير أن حجم كل هذا العمل ونطاق دوائره يبقى بحاجة لإعادة تقييمه وهل كان سيكون مؤثرا أم أنه كان مجرد أنشطة لكسر طوق الصمت عن علاقات مرفوضة سياسيا من الأحزاب والقوى الفاعلة وكذا من النخب والشعب هذا التفسير الأخير يبقى أرجح مع أن تراكم مسار التطبيع لو استمر كانت ستكون له آثار سيئة بكل تأكيد. رابعا: مقاومة التطبيع كان الشارع مهيئا أكثر من أي شارع آخر لرفض هذه العلاقات وما إن انتشر خبر تأسيس مكتب لهذه العلاقات حتى بدأت المواقف الرافضة لهذه العلاقات تتوالي فقد نددت بها أحزاب المعارضة وحتى الحزب الحاكم لم يستطع تبني وجهة النظر الحكومية ولم يدافع عنها واختار أسلوب انشاء منظمات وهيئات للدفاع عن هذه العلاقات خوفا على شعبيته أما في أوساط المثقفين والشعب الموريتاني فقد نشأت المنظمات المقاومة وخرجت المظاهرات المنددة خصوصا في المدارس الثانوية وفي جامعة نواكشوط التي أضربت تضامنا مع الفلسطينيين عشرات المرات فضلا عن التظاهرات التي كانت تجري بشكل أسبوعي رفضا لهذه العلاقات. أما الصحف والمثقفون وقادة الرأي وأئمة المساجد وكبار العلماء فقد أعلنوا رفضهم والمقربون منهم من السلطة تحفظوا على هذه العلاقات وانتقدوها بقوة وخلال سنوات التطبيع نشأت العديد من الهيئات المتخصصة في مقاومة التطبيع ومن أبرزها: 1- اللجنة الوطنية لمقاومة التطبيع: وتعتبر هذه اللجنة من أول اللجان التي تأسست في العام 1996 بقيادة الدكتور محمد محمود ولد أماه وعضوية محمد جميل منصور وعبد القادر ولد الناجي وشخصيات عديدة من تيارات سياسية مختلفة وتوجهات ايديولوجية متباينة غير أنها جسدت الإجماع في الساحة على رفض العلاقات مع الكيان الصهيوني بوصفها عارا للشعب والدولة الموريتانية التي ما فتئت من أبرز الدول الإفريقية القائدة والموجهة للدول الإفريقية فيما يخص مناهضة أنظمة الفصل العنصري في جنوب افريقيا ودولة الكيان الإسرائيلي الغاصب. 2- المبادرة الطلابية لمناهضة الاختراق الصهيوني: وهي اطار طلابي تأسس في العام 1999 بعد رفع مستوى العلاقات للسفراء بين موريتانيا وإسرائيل وقد أعلنت عن نفسها بعد أن كانت لجنة طلابية سرية تخطط وتنظم الأنشطة المناهضة للاختراق الصهيوني في الجامعة من أبرز قادتها المؤسسين حمودي ولد الصيام محمد الراظي ولد النهاه أخيارهم ولد محمد وغيرهم وقد قامت بدور ريادي استمر مشتعلا لعدة سنوات. 3- الرباط الوطني لمقاومة الاختراق الصهيوني: وقد تأسس في العام 1999 وتولى رئاسته محمد جميل ولد منصور بينما تولى محمد محمود ولد أمات رئاسة مجلس الرقابة فيه وكانت الأمانة العامة من نصيب محمد غلام ولد الحاج الشيخ وقد نشط الرباط في مؤسسات أسلوبا احتجاجيا وتعبويا قويا استمر لعدة سنوات. وفي العام 2008 تم ترخيصه بعنوان جديد هو الرباط الوطني لنصرة الشعب الفلسطيني ودعم القضايا العادلة وركز أنشطته على الدعم الإنساني والإعلامي والسياسي من خلال إرسال قوافل التضامن وجمع التبرعات للأهل قطاع غزة المحاصر وسير قافلتين أولاهما كانت في العام 2010 والثاني كانت 2012 ويركز الرباط الآن جهوده على الدعم والمناصرة الحقوقية والسياسية للشعب الفلسطيني. (14) 4- اللجنة الشعبية للدفاع عن فلسطين والعراق ويرأسها أحمد ولد عبيد وكان لها دور كبير في نصرة القضيتين الفلسطينية والعراقية تأسست في العام 1998 بعد العملية الأمريكية التي سميت (ثعلب الصحراء واستمرت أربعة أيام16 ديسمبر 19 ديسمبر 1998) واستهدفت توجيه ضربات للنظام العراقي من أجل الكشف عن الأسلحة الكيماوية وإبداء مزيد من التعاون مع آليات التفتيش الدولية. (15) خامسا: تجميد فقطيعة جاء قرار تجميد هذه العلاقات في سياق الأزمة السياسية الناتجة عن انقلاب السادس من أغسطس 2008 حيث أعلن رئيس المجلس الأعلى للدولة آن ذاك الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز عن تجميد هذه العلاقات خلال مشاركته في قمة غزة المنعقدة بالدوحة 16 كانون الثاني/ يناير 2009 وهي نفس الخطوة التي اتخذتها قطر أيضا كإجراء تضامني مع الفلسطينيين خلال الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة. وفي الرابع من مارس 2009 أمرت السلطات الموريتانية السفير الصهيوني بوعز بوسميث وطاقم سفارته بمغادرة البلاد خلال ثمانية وأربعين ساعة وفي السادس من مارس 2009 أزالت الجرافات الحواجز الإسمنتية التي كانت محيطة بمقر السفارة وفككت كاميرات المراقبة وأعيدت وحدات الشرطة وقوات الأمن الداخلي الخاصة التي تحرس المكان إلى ثكناتها وأسدل الستار على عشر سنوات من مداعبة الرياح الساحلية للعلم الإسرائيلي في سماء العاصمة نواكشوط لينتهي بذلك عقد من السنين عرفت جدلا وعراكا قويا حول مشروعية هذه العلاقات في فقه العلاقات الدولية حيث أجمعت القوى والنخب الموريتانية بتياراتها الرئيسية على ادانة خطوة التطبيع كما تفاعل الشارع الموريتاني مع ثقافة مقاومة التطبيع وضحى الكثير من أبنائه بصحتهم فواجهوا القمع والتنكيل على يد الآلة القمعية للنظام المصر على "التمسك بهذه العلاقات مهما تطورت الأمر إلى حد الدمار والخراب" كما عبرت وزارة الخارجية الموريتانية لتتحول المقولة إلى لازمة في افتتاحيات الوكالة الموريتانية للأنباء التي كانت تحاول تسويغ موقف الحكومة للرأي العام الموريتاني. غير أن موريتانيا وهي تجمد هذه العلاقات لم تعلن عن القطيعة النهائية مع إسرائيل إلا بعد عام تقريبا (22 مارس 2010) حيث أعلنت وزيرة الخارجية الموريتانية "الناها بنت حمدي ولد مكناس" أن بلادها قد قطعت "نهائيا" علاقاتها مع إسرائيل، ردا على اتهامات المعارضة للحكومة بأن العلاقات التي تم تجميدها ما زالت قائمة، وأن نظام الرئيس ولد عبد العزيز "يضلل الشعب الموريتاني، ويتكتم على هذه العلاقات" . (17). سادسا: المآل المستقبلي يبدي الكثيرون من مخاوفهم من استمرار مستوى من مستويات العلاقة الموريتانية الإسرائيلية بشكل سري ويستدلون على ذلك بالمكانة التي منحت للطاقم الموريتاني الذي عمل في السفارة بتلابيب حيث عين السفير أحمد ولد تكدي على رأس الخارجية الموريتانية بينما عين محاسب سابق في السفارة مختار جا ملل وزيرا للتعليم الأساسي ولا يزال لحد الساعة يشغل منصب وزير التشغيل والتقنيات الجديدة في الحكومة الموريتانية غير أن مجرد تمكين موظفين ذوي كفاءة وقدرات من استحقاقهم في الخدمة الوظيفية لا يعتبر مؤشرا على تبعيتهم لإسرائيل لأن عامل الثقة والاختيار الذي دفع بهم إلى هناك في الأصل هو الذي بؤهم أيضا وظائف متقدمة في الجهاز الإداري لحكومة بلادهم ثم إن يستخدم هذا المؤشر بهذه الطريقة يجعل كل موريتاني تعاطى مع مهمات كلف بها من بلاده عميلا لتلك الدولة التي يعمل بها فهذا ينطوي على قساوة بالغة .(18) والخلاصة أن استمرار العلاقات والاتصالات بشكل سري قد يكون قائما لكنه لا يعتبر علاقة دبلوماسية متبجحة بالتغاضي عن الجرائم وتأيد الصهاينة كما كان حاصلا من قبل. فموريتانيا بقطعها لهذه العلاقات حققت ارادة الشعب الموريتاني ورغبته التي ضحى في سبيلها نضاليا وحقوقيا وفاء لقيمه ومبادئه الوطنية والقومية وهذا بحد ذاته انجاز سياسي كبير عجزت حتى الشعوب العربية في مصر والأردن عن انجازه في لحظة عز الربيع العربي خلال السنوات الماضية لذلك فلا معنى لتنقيص حقيقة قطع العلاقات بوهم ووساوس استمرارها بأشكال سرية مفترضة لم تقم عليها الدلائل بعد. هوامش البحث: 1- حماه الله ولد السالم موريتانيا في مواجهة الاختراق الإسرائيلي مجلة المستقبل العربي العدد 352 /04/2008. 2 - محمد الأمين سيدي باب مظاهر المشاركة السياسية في موريتانيا ص92-93 ط مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 2005. 3 - فؤاد وليد التطبيع مع دولة إسرائيل حلقة أساسية في المخططات الإمبريالية بالمنطقة (بتاريخ نيسان (أبريل) 2005) موقع المناضل على الرابط : http://almounadil-a.info/article241.html 4 - محمود سعيد عبد الظاهر تقرير بعنوان: التغلغل الإسرائيلي في افريقيا ص 15-18. 5 - ابراهيم الأزرق موريتانيا والنفق الطويل موقع المسلم http://almoslim.net/node/85230 بتاريخ 06/07/2003. 6 - ابراهيم الأزرق نفس المصدر السابق. 7 - محمد المختار الشنقيطي موريتانيا وإسرائيل ماذا وراء الربوة- الجزيرة نت بتاريخ ا 3/10/2004 الرابط نحو المقال (http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2004/10/3/%D9%85%D9%88%D...). 8 - ابراهيم الأزرق مصدر سابق. 9 - فؤاد وليد مصدر سابق. 10- العلاقات الموريتانية الإسرائيلية الجزيرة برنامج تحت المجهر(بتاريخ 10/01/2005 ) الرابط نحو المقال: http://www.aljazeera.net/programs/infocus/2005/1/10/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D... 11- محمد صالح الكروي وفيصل شلال بحث منشور بمجلة المستقبل العربي عدد رقم: 379 تحت عنوان : العلاقات الموريتانية الإسرائيلية: من التطبيع إلى التجميد إلى القطع 9/2010. (مع أن هذا البحث يتسم بالشمول إلا أن فيه خلطا بين الشائعة والخبر والدعاية السياسية لذلك انطوى على مبالغات وأخطاء قاتلة لبعد معديه عن التفاصيل الدقيقة للساحة الموريتانية). 12- موسوعة الجزيرة مسار العلاقات الموريتانية الإسرائيلية بتاريخ 25/3/2015 الرابط نحو المقال : http://www.aljazeera.net/encyclopedia/events/2015/3/18/%D9%85%D8%B3%D8%A... 13- سيدي محمد ولد بمب العلاقات الموريتانية الإسرائيلية بتاريخ 26/08/2004 رابط المقال : http://www.aljazeera.net/programs/infocus/2005/1/10/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D... 14- محمد غلام الحاج الشيخ ورقة ألقيت في مؤتمر الأحزاب العربية للعام 2009 بعنوان : التطبيع: "تاريخ الخطيئة ومسار المقاومة". منشور على موقع الأخبار بتاريخ : 3/12/2009 http://arc.alakhbar.info/9211-0-F-0F-F--FCCB-FBC-C-FC05--F-0.html 15 نفس المصدر السابق. 16 - صحيفة الشرق الأوسط السعودية تقرير (بتاريخ7 مارس 2009 العدد 11057) تحت عنوان: موريتانيا تطرد السفير الإسرائيلي.. وجدل حول التوقيت ودور زيارة القذافي. الرابط نحو المقال : http://archive.aawsat.com/details.asp?issueno=10992&article=509939#.VxzO... 17- مجلة العصر الإلكترونية مقال تحت عنوان: قطع العلاقات مع إسرائيل وتحالف مع إيران...ماذا يجري في موريتانيا؟! بتاريخ 2010-4-18 http://alasr.me/articles/view/11400/ 18- أحمد ولد سيدي مقال في موقع رصيف تحت عنوان : هل عاودت موريتانيا التطبيع مع إسرائيل؟ بتاريخ 09.10.2013 الرابط نحو المقال: http://raseef22.com/politics/2013/10/09/%D9%87%D9%84-%D8%B9%D8%A7%D9%88%...