مقدمات في ألَحِّية إنضاج الفكر التغييري

صبحي ودادي: حققت الحركة الإسلامية خلال مسيرتها الكثير من الأهداف بالنظر إلى تعدد المسارات الفكرية والاجتماعية والسياسية والتربوية التي كانت تناضل على جبهاتها، في واقع كان التجديد الديني فيه قد بات أمرا ملحا، وإذ أسهمت الجهود في تحرير الوعي الإسلامي واسترجاع الهوية الإسلامية، بعد أن هددتها الفلسفات المادية والبرامج الأيديولوجية المتغربة، فإن الوعي باللحظة التاريخية وتحدياتها المخصوصة ومتطلبات ذلك؛ على المستوى الفكري والمنهجي، بات أمرا ملحا فِي ظل تعثرات سياسية متتالية للمشروع التغييري الإسلامي وتحديات من صنف الاحتلال المباشر من طرف قوى دولية وإقليمية، والعبث الداخلي الذي يتجلى في توظيف الاستبداد والفساد للفوضى - التي أنتجها التخلف والظلم والجهل- لإدخال الأمة في نفق العنف الأعمى المدمر.

إن المقولة التأسيسية لهذا الأمر تستمد صدقيتها من مآلات المواجهة السياسية والحركية مع تغيير أوضاع العالم الإسلامي، ومن الأوضاع الدولية "الفوقية" التي لم تزدها الجهود الإصلاحية إلا نفورا من الإصلاح وتأبيا عليه، وانخراطا من قبل الأطراف المعيقة للإصلاح في لعبة سِنادها خارجي يريد إبقاء هذه الأمة _بشكل مكشوف ومُصِر_ في خانة التخلف السياسي والتبعية الحضارية.

وزادُ هذه الإفاقة النظرية/المنهجية المطلوبة، ينبغي أن يُستمد من مصادر معرفية وممارسات منهجية سنشير لبعضها في هذه الإثارة :

1ـ دراسة واعية وعميقة للسيرة النبوية: باعتبارها المنهج النبوي للإصلاح والمفسرة للقرآن، دراسة تقطع مع القراءة الاختزالية التي تستخلص الدروس والعبر على المستوى الجزئي إلى دراسة تستخلص الكليات المنهجية المتعلقة بأساليب إدارة المعركة مع الْعَدُو والخصم، وطبيعة الممارسة التغييرية وخصائصها، وكيف تم زرع شجرة الإسلام في بنية المجتمع الجاهلي.

إن استخلاص درس ضرورة الاستعانة بالخبير مثلا من خلال قصة عبد الله بن أريقط في حادثة الهجرة ومن قصة سلمان عند الإشارة بحفر الخندق، ينبغي أن تتجاوز الاستخلاص الجزئي في الموضوع إسقاطا على التدبير الحركي الداخلي إلى العبرة الأشمل في ضرورة توافر الأبعاد الفنية والعلمية، وضرورة اعتماد المنهج الحركي في صياغة نفسه واستراتيجياته على أهل العلم والاحتفاء بمفاد العقل البشري من المعارف والعلوم.

إن كثيرا من الموازين الدعوية العظيمة مبثوثة في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يعالج الجاهلية ويؤسس المجتمع والدولة الإسلامية؛ من تدرج ووسطية وتفويت للمفاسد العظيمة باحتمال جزئياتها.

فلئن كانت المدرسة الوسطية قد عمقت فهم المسلمين والصحوة لكثير من هذه المفاهيم فإنها لم تستطع بعد أن تسقطها إسقاطا حيّا على التحديات التي تعيشها، وكثيرا ما تأثر الخطاب الإسلامي الوسطي بالخطابات التجزيئية والمستعجلة في تعامله مع الإشكالات "اليومية" لعملية التدافع التي تأتي بجديد ليس بالضرورة أن يجد فتواه التفصيلية منطوقة ممهورة بتوقيع الوحي قطعي الدلالة، وهو أمر لا يمكن أن يواجه إلا بعقل تحليلي وتركيبي ذي قدرة على الإسقاط الحي والانتقال بالموازين من رفّها النظري إلى تكييفاتها الواقعية لزماننا ومكاننا.

إن الجهود العلمية التي تمت في هذا المنوال يجب أن تكون أساسا للتطوير، وهي جهود مباركة، أهمها فقه السيرة للغزالي وفقه السيرة للبوطي عليهما رحمة الله ودراسات في السيرة لعماد الدين خليل...

2ـ دراسة التجارب التغييرية للقوى الإصلاحية في المجتمعات الحديثة: وكيف واجهت بُنيات الفساد والاستبداد، سواء كانت هذه التجارب إسلامية، تفاعلت مع تحديات زماننا، وأمكنها أن تحقق الشهادة على عصرها من خلال خلق قوة اجتماعية تحركت بقيم الدين فحققت التمكين الحضاري والسياسي، أو كانت تجارب إصلاحية لدعوات وحركات إصلاحية غير إسلامية استطاعت كسر مشكل التخلف الحضاري لمجتمعاتها وواجهت العدو الخارجي، حيث تتقاطع كثير من جوانب هذه التجارب مع ذات التحديات التي تواجه مجتمعاتنا.

3ـ إعادة فحص دقيقة لمفردات الواقع السياسي والاجتماعي الذي تعيشه الأمة: من أجل إعادة تشخيصٍ تُفرز خرائط التحدي ومراكز المنخرطين في برامج التعويق والإفساد في مجتمعاتنا، وهو تشخيص أبانت التجربة عن أهميته بسبب حجم المعارك الجانبية التي تورطت فيها بعض الحركات الإسلامية، وكانت مفضولة في أحسن حالاتها، وفِي هذا الإطار تأتي أهمية فرز المكونات الغالبة على نسيج المجتمعات الإسلامية، وتقييم هذه المكونات تقييمًا شاملا وغير منحاز، لا يبتغي التقريب والإبعاد كهدف عاطفي، وإنما يسعى لتحديد الموقف الصحيح من هذه الفعاليات الاجتماعية والسياسية انطلاقا من علاقتها بعملية التغيير والإصلاح الحضارية، وهي عملية ينبغي أن لا تنظر بعين واحدة في تحديد طبيعة المصلح والمفسد، فالمفسدون في ميادين السياسة والاقتصاد والمفسدون في ميدان الاجتماع والفكر الحي مشتركون في عملية التعويق والتبديد.

إن القوى التي تقع في دوائر التوظيف من طرف معسكر الفساد هي قوى هامشية موظفة تحت طائل الجهل أو الخشية من مشاريع الإصلاح، وسيكون تضييع الجهود في الصراع معها استنزافا للجهود، كما أن الدخول في عمليات تنافسية مع القوى الوطنية الإصلاحية التي تنطلق من منظور حضاري مقارب أو من منظور حضاري مباين، دون أن تتورط في صياغة مشروع اجتماعي ضال، هي قوى حليفة وصديقة للمشروع التغييري للحركة الإسلامية.

إن المجازفة السابقة بوضع خرائط تقييمية لمكونات النسيج الداخلي المتدافع هي بحق عملية غير نهائية وربما غير يقينية، ولكنها تهدف في مجملها لتبني مقاربة تعتبر أن الأساس الثابت في تمييز  معسكر التعويق الحقيقي للإصلاح في مجتمعاتنا هو تيار الفساد  السياسي والاجتماعي ممثلا في نخبة المدنيين المرتزقين من السياسة والعساكر الساطين على الجيش والمجال العام وشلل الترويج للفساد الأخلاقي والقيمي الملتحفين بالتقدمية.. بمعنى أن معيار الفساد والإصلاح في هذه اللحظة التاريخية هو الذي يجب أن يعتمد كمقياس لفرز الفعاليات السياسية والاجتماعية في علاقتها بالمشروع التغييري للحركة الإسلامية، قربا وبعدا، مصالحة ومواجهة..

4ـ فرز القواعد المنهجية التفصيلية في المنهج الحركي: من خلال دراسة عميقة في التاريخ وفلسفته وعلم الاجتماع وقوانينه، فكما علمنا القرآن إن أمر التدافع قائم على سُنَن وضعها عز وجل في الاجتماع البشري: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيَّع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)، (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)، (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا).

وأمر استنباط واستقراء هذه السنن هو من نصيب العلماء، والاهتداء إلى هذه المنارات والقواعد في مسيرة التغيير مؤذن بصلاح الأمر وفاعلية الحركة، والناظر إلى تجارب الأمة المعاصرة في الإصلاح يجد أن النقص لم يكن يوما في قلة الجموع الملتحمة بالفكرة ولا المستعدة للتضحية والبذل، كما أن الوقوع في ذات الأخطاء ووقوع ذات المصيبة مرارا يؤكد أن العطب الفكري هو علة العلل وأس المصائب.

إن إحدى أهم المشكلات التي واجهتها الحركات الإسلامية هي قلة الكفاءات في صفوفها من أهل العلوم الإنسانية، وقد تأثرت الحركات الإسلامية في هذا الموضوع بأمرين؛ التأثر بالنظرة المجتمعية المحتفية بالتخصصات العلمية التطبيقية كالطب والهندسة مقارنة مع التخصصات العلمية الإنسانية، وصعوبة الظفر بأهل العلوم الإنسانية بما لديهم من الرصيد النظري الوافر لأصحاب هذه العلوم، وهو أمر انعكس بطبيعة الحال على التشكيلات القيادية للحركات التغييرية التي تشكل أمل الأمة في التحرر والنهوض، وتكفي نظرة عامة لاكتشاف هذا الخلل في طبيعة تخصصات الصف القيادي في أغلب الحركات الإسلامية المعروفة.

5ـ وفِي إشكال الإصلاح الاجتماعي: يلزم تطوير وتكثيف الخطاب الدعوي؛ إذ لا غنى عن المجتمع لأنه وسيلة وغاية الإصلاح، فالإصلاح الفوقي بدون مجتمع يحمي ويرحب ويحتضن ويتفاعل هو إصلاح شكلي صوري، وإذ تؤكد القرائن والوقائع أن إيمان جمهور الأمة بالدين، عقيدة وشريعة، أمر ثابت راسخ، فإن ذات الوقائع تبرز كل حين عجز القطاع الأوسع من الجمهور نفسه عن ممارسة القيم الحضارية الإسلامية من مساواة وحرية وعدل، والتفسير الأقرب هو حاجة الجمهور لفك هذه الفصام النكد بين الإيمان البارد والانفعال الحي الذي يتحول به الإيمان إلى سلوك وثقافة موجِّهة للمواقف، والطريق لفك هذا الفصام هو الدعوة.. الدعوة من خلال خطاب دعوي بحمولة فكرية وثقافية على مستوى الهدف وعلى مستوى العبء الحضاري المشار إليه.

إن تبسيط الخطاب الدعوي ضرورة، ولكنه لا يعني حصره في نفس المساحات التي جاءت الدعوة لمواجهة قصر التدين عليها.

إن موضوعات المنهج الحركي يجب أن تطال وسائل التغيير من كافة جوانبها، تربوية وإصلاحية، كما ينبغي أن تطال كل الإشكالات وتنقد المناهج التغييرية الشائعة، وفوق ذلك عليها أن تتعرض لمفهوم وحدود التمكين، وتؤسس للتخطيط الأكبر؛ لما فوق مسيرة التقدم الاجتماعي والاقتصادي والتمكين السياسي.