الشيخ أحمد البان : قراءة (الموسوعات) في مختلف الفنون طريق لاحب للتأسيس المعرفي الرصين، خصوصا إذا كانت تلك الموسوعات مكتوبة بأقلام من عاشوا في عصور ما قبل انقطاع مسار نهضة الحضارة التي يكتبون عن بعض جوانبها؛ لأنهم يكتبون عنها دون عقدة نقص، تلك العقدة التي تصيب الأجيال التي تنشأ في عصر التراجع الحضاري؛ فتدفعها إلى الانتقاء والاجتزاء.
ويعتبر التاريخ من أهم العلوم التي تحتاج قراءة موسوعية مستوعبة، ونعني بالتاريخ هنا مفهومه الشامل (لا المصطلح المدرسي الشائع في أوساط العامة)، أي “الإنسان والزمان” -كما يقول السخاوي في كتابه: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ-، ومفهوم “الإنسان” هنا يشمل طباعه الذاتية وتفاعله مع المحيط الخارجي، كما يشمل “الزمان” سيرورة الأحداث أفقيا وعموديا –إن صح التعبير-. يعني أننا نقصد بالتاريخ المفهوم الذي تدخل فيه –بدرجة أولى- خصائص الشعوب ومميزاتها والعوامل المؤثرة في ذلك (المناخ ـ الجغرافيا ـ الثقافة ـ الدين ـ وسائل الإنتاج إلخ) ـ أي ما يطلق عليه البعض “التاريخ الكبير” ، كما تدخل فيه السلطة بناؤها وأداؤها ومكائد البلاطات، وما يدور خلف أسوار القصور، والعوامل المباشرة لقيام الدول وسقوطها، وهو ما يطلق عليه “التاريخ الصغير”.
وفق المفهوم السابق للتاريخ؛ سوف تندرج أغلب كتب التراث السردي (السير والتأريخ للأحداث وسردها باستفاضة مثل البداية والنهاية لابن كثير، تاريخ الطبري وابن عساكر وابن خلدون وخليفة بن خياط وغيرهم – كتب الأدب التي تهتم بالتاريخ الاجتماعي مثل البيان والتبيين والحيوان والأغاني والنقائض والعقد الفريد إلخ – كتب التراجم والطبقات بمختلف مجالاتها ـ كتب الفتاوى والنوازل مثل المدونة وغيرها). إن هذه المصنفات سالفة الذكر تحتفظ لنا بتاريخ المجتمع المسلم وتفاعله الطبيعي –كمجتمع وليس كمواقف ونماذج مثالية فقطـ– في مختلف المراحل، إنها تحتفظ بما أمكن من حرارة اللحظات التاريخية والمواقف النفسية والاجتماعية المختلفة (لا شك أن كل كاتب من هؤلاء أثرت فيه مواقفه ورؤيته وأحيانا مذهبه وطائفته)، ما يعني بالنسبة للقارئ معايشة المجتمع المسلم ـ بصورة تقريبية ـ في مراحله كلها، كيف نشأ؟ كيف تطور؟ كيف كان يدار؟، كيف كانت هي أحلامه ومطامحه؟، ما مدى تأثير العوامل التقليدية(الدين – العلم – المجتمع) في تحديد مساراته ومداراته الكبرى، المقدس والمدنس فيه. قراءة التاريخ وفق الرؤية السابقة ضرورية ليس للمؤرخ فقط، بل للمفكر أيضا، حيث إنه يطبخ المواد الأولية لمنتوجه في كانون مقايسات وسوابق ولمعات التاريخ مقرونةً بفكره الناقد، وبدون تلك النظرة التبادلية (نظرة التاريخ بعيون الواقع، وتسليط عيون التاريخ على الواقع) سيظل كل منتوجه أعرج الخطى، لأنه إما تهويمات ذاتية غير مؤسسة ولا مدعَّمة، وإما مُستجلَبات لم تخضع لما يسميه الفقهاء (التطهير بالاستحالة)؛ حتى تناسب فكر وثقافة ومجتمع ينتمي لحضارة مختلفة في منطلقاتها ومساراتها ومآلاتها الحتمية والمقصودة.
ثم هو أيضا (أي قراءة التاريخ بمفهومه السابق) ضروري للفقيه ـ بل هو أكثر حاجة له من غيره، ذلك بأن الفقه المدون (سواء في جانبه النظري التقعيدي أو في جانبه الإجرائي الإفتائي) هو إجابات على الأسئلة المعلنة والمضمرة لذلك المجتمع، ومواكبة نشطة لتصوراته وتطوراته (كتاب السياسة الشرعية للماوردي مثلا هو محاولة تكييف شرعي لوضع الأمة السياسي في زمنه، وقد كان نشطا لصالح مشروع طغرل بك ضد بني بويه)، ومسايرة لحركة أذواقه وأخلاقه (مبحث العرف والعادة وقبول شهادة أمثل الموجودين وغيرها).
إن قراءة الفقه أو ممارسة الفتوى دون الاطلاع على هذا التاريخ غير مفيدة، بل إن انتصاب فقهاء مغفلين في التاريخ السياسي والاجتماعي والأدبي للأمة أحد أهم عوامل تخلف العقل الجمعي المعاصر لها، ذلك بأن انتزاع التقعيد الفقهي والإفتاء الظرفي من سياقهما الاجتماعي والثقافي الذي أنتجا فيه يحولهما من “تفاعل إيجابي” إلى “قيد سلبي”.
لم يكن الفقهاء الأولون متخصصين في (الفقه) بالمفهوم المعاصر الذي حول الفقه إلى مسائل تشبه مواد قانون المرور، بل كانوا يمتلكون ثقافة موسوعية شاملة، ولذلك استطاعوا أن ينتجوا ذلك التراث العظيم. سيندهش المرء حين يرى مواقف المجتمع الأول من قضايا الخلاف في بعض المسائل التي تفرقنا اليوم، وهم يحسبونها عاديات لا تقتضي خصومة ولا مناكفة، والعكس صحيح، ولم نتعود للأسف على إدخال هذه الأبعاد التاريخية والاجتماعية في تحرير الموقف الشرعي من بعض الأمور، لأننا ما زلنا مكبلين بوهم قدسية المنظومة التي وضعت لزمنها وبعقول أهل ذلك الزمان للاستنباط وإنتاج الأحكام الشرعية في ضوء الكتاب والسنة.
إن من أقبح ما جاءت به إدارة تصميم الوظائف الحديثة هو وظيفة “باحث شرعي” يعمل إلى جنب “باحث اجتماعي” و”باحث لغوي” وآخر “باحث نفسي”، كل منهم يعمل في جزيرة من الاسمنت تفصله عن الآخر، والنتيجة أن نحصل على مجتمع مشوه شرعيا ولغويا واجتماعيا ونفسيا، ولو اجتمع الفريق -على طريقة اليونيني في نسخته الفذة من صحيح البخاري– لحصلنا على رؤية متكاملة في النوازل والمستجدات.
تعيش الأمة منذ قرون على معتصرات المختصرات، التي إن بسطت وطولت فهي كما يبرع الخباز في تمطيط رغيفه فتراه كبيرا مع أن له نفس الوزن والحجم، ولن تنهض الأمة دون الرجوع للتراث؛ موسوعاته الأولى التأسيسية مرة أخرى، لقراءته بأعين غير تلك التي قرأته وهي حولاء ناظرة شطر الغرب الغازي، ولا تلك التي قرأته بدافع الحمية والشفقة عليه من أصحاب الانبهار.
في رأيي أن الذي يقرأ تاريخ الطبري مثلا أو البداية والنهاية أو غيرهما من موسوعات بتأمل وتمعن وبعين فاحصة ونفسية قلقة معرفيا، بل وشاكة ومجادلة غير مستسلمة لما يروى، أظن أنها قد تغنيه عن كثير من قراءة كتب الفقه السياسي وكتب علم الاجتماع، التي في غالبها إعادة بناء وصياغة منهجية لما هو منثور بطريقة أصيلة في هذه الكتب من نفاضة عقول النخبة القائدة بمفهومها الواسع، وليس السلطة فقط، إضافة لما هناك من لمعات الرأي الراشد وإشراقات الكلمات الجامعة للتدبير السياسي والاجتماعي.
خذ مثلا قولة مسلم الخراساني حين سئل – بعد نجاح ثورته على بني أمية لصالح بني العباس – أي قبائل العرب التي صنع بها الثورة كانت أشجع؟ قال: (كل قوم عند إقبال دولتهم شجعان)، إنه هنا يضع قانونا في علم الاجتماع السياسي سار عليه ابن خلدون في وضعه مراحل عمر الدولة، وكأن ابن حزم كان ينظر إليه وهو يقرر أن وضع أي لغة يتبع للوضع الحضاري للأمة الناطقة بها، لكن ابن خلدون وابن حزم استطاعا وضع نظريتيهما في كتاب أو مبحث متخصص، بينما ضاعت كلمة أبي مسلم في بطن موسوعة لا تصلها الوعول.
حين يخطر ببالي دور السباح الماهر الموفق الصحابي مجزأة بن ثور السدوسي، عندما استدعاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وهو الخبير بخارطة مواهب رجاله- لتنفيذ كوماندوز فريد لدخول مدينة “تستر” المحصنة عبر نفق مائي، حين أتذكره أدرك أن في تلك القصة تضيع عبر كثيرة ونظريات عميقة في فلسفة إخفاء الرواحل النوعية لحين مناسب.
أما احترافية ودراما التنظيم الذي أدار به فيروز الديلمي وفريقه من الصحابة أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل والموفقة النبيلة رضي الله عنها (زاذا) زوجة العنسي المجرم الذي دبرت قتله معهم بطريقة احترافية، فذلك ما يدهش القارئ، التفاصيل التي أوردها ابن كثير في البداية والنهاية عن تلك القصة تجعل كل جزئية منها تستحق دراسة منفصلة في علم الاجتماع والسياسة وفقه الثورة وآلياتها وطرق تدبيرها. الخلاصة، إنه لا يحوز العمق المعرفي لأي حضارة من لم يقرأ تاريخ تلك الحضارة من أصوله وأسسه وفي سياقه الاجتماعي الطبيعي، القراءة الأخرى للتاريخ هي قراءة من يريد الفوز في المسابقات: حفظ الأحداث والتواريخ والأسماء، هذا ليس هو التاريخ، التاريخ كما يقول بروديل هو : “علم الإنسان، لكن شريطة أن تكون علوم الإنسان بِجواره”.
كيف يستطيع فهم حركة الردة وما تلاها من أحداث قارئ خاوي الوفاض من أيام العرب وأشعارها التي تدون مفاخرها ومثالبها وخصائص قبائلها النفسية والاجتماعية! وكيف يعرف تلك الأيام والأشعار والمفاخر والمنافرات من أخذها من كتب النصوص الأدبية المعاصرة! لا شك أن قراءة تلك الموسوعات صعبة في “الأزمنة السائلة” -بتعبير زجماونت باوند، ولكن لا شك أيضا أن غيرها لا يغني غَناءها ولا يثمر ثمرتها. فاختر لنفسك.