إشكال التغيير بين المأمول والممكن

الأستاذ محمد جميل منصور

يطرح هذا العنوان إشكالا متكررا في طرح الإسلاميين منذ فترة وهو المفارقة بين ما يراد وما يُستطاع، أو بعبارة أخرى بين المبدأ في نصاعته وألقه وأصله وبين التكيف مع حدود الإمكان التي تفرض شروطها وسياقها، والظاهر أن المبالغة في هذا الإشكال أو هذه الثنائية يولد ارتباكا فكريا مزمنا ويخلق انتظارية لمثال قد لا يأتي أصلا، فالواقع وإكراهاته والإمكان وشروطه جزء من التصور الفكري، ومعتبر في تحديد الاختيارات والمشاريع ولا يُتصور حال لا تأثير فيه لواقع، ويولد هذا الإشكال فقه اضطرار يعيش أصحابه على انتظار مستمر يربك التصور ويشغل عن الحال الماثل باحتمال منتظر أمله ضعيف.

وتجدد الحديث في موضوع التغيير وأساليبه وإمكانه وحدوده مبرر من أكثر من وجه، فالجدل الفقهي والفكري يتوسع؛ استنطاقا للنصوص وتباينا في الفهم والصياغة والتنزيل، والتجارب ومآلاتها وما صاحبها، والتمايز بين العناوين الإسلامية والذي أصبح لازما وواجبا، وكلفة التردد فيه عالية على المستويين النظري والعملي .. كل ذلك يبرر تجدد هذا الحديث ويدفعإلى أن يكون حديثا صريحا وجريئا وواضحا، صريحا في اختياراته وجريئا في مراجعاته وواضحا في خلاصاته، وهذا ما سنسعى جهدنا للقيام بشيء منه على أن نخرج بما يفيد وينفع وينبت الكلأ والعشب الكثير، فالقيعان والأجادب مفضولة ولا تنفع في هذا المقام.

وعنوان المقال يفترض أن هناك مأمولا يقيده الإمكان ويزعم صاحبه أن الإمكان قاعدة فكرية للتغيير المطلوب وليس استثناءً فحسب، وما لا يمكن لا يطلب، وشرط الاستطاعة معتمد مضطرد في  العبادات فأحرى دائرة العادات والشأن العام.

أولاً: التغيير: حديث في الأصول:

التغيير هو التحول من حال إلى حال، وهو في حالتنا التغيير إلى الإسلام وبالإسلام، أي أنه تغيير يهدف إلى سيادة هذا الإسلام ويلتزم إلى ذلك بالطرق التي حددها أو أجازها الإسلام، ولأننا نتحدث عن الحركة الإسلامية بالمفهوم الشامل وبالمهمة الكلية فإننا نستحضر قوله تعالى: "الذينَ إنْ مَكنّاهُمْ في الأرْض أقامُوا الصَّلاة وآتوُا الزّكاة وأمَرُوا بالمعروف ونهَواْ عنِ المُنكر وللهِ عاقبةُ الأمور".

يقول سماحة  الإمام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: "فأما إقامة الصلاة فدلالتها على القيام بالدين وتجديد لمفعوله في النفوس، وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم"([1]).

وهدف هذا التغيير الإصلاح وإقامة العدل:" ... إنْ أُريدُ إلاّ الإصلاحَ مااستطعتُ وما توفيقي إلا بالله عليه توكلتُ وإليه أنيب"، "إنَّ اللهَ يأمُركُم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الياس أنْ تحكُموا بالعدل إنَّ الله نِعِمّا يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً".

صحيح أن طبيعة الإسلام في التعامل مع جوانب الحياة تختلف حجما وطريقة، فالمجالات الشخصية والأسرية والأخلاقية والاجتماعية معروفة بقواعدها وتفاصيلها وأعدادها، فالتغيير هنا واضح الأهداف محدد المآلات، والمجالات السياسية وجانب معتبر من الاقتصادية ولواحقُها من الشأن العام معروفة بأصولها وموجهاتها متروكة تفاصيلها وأشكال تنزيلها للمسلمين، للعقل المسلم المنضبط بالوحي القاصد للمصلحة، فتلك منطقة عفو "ما أحلّ الله في كتابه فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا"، ثم تلا صلى الله عليه وسلم: "وما كانَ ربُّكَ نَسِيّا"([2]).

ولا يخفى على الدارسين أن الشورى -وهي من أهم قواعد النظام السياسي في الرؤية الإسلامية- جاءت عامة في الوحي متمايزة التطبيقات في عصر الخلافة الراشدة مما يؤكد معنى القابلية لاستيعاب الجديد مما ينفع الناس ولا يضر دينهم ولا أوطانهم شيئا،ويؤكد هذا المعنى ويعززه التفريق الذي استقر عند العلماء المحققين بين ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم وتصنيفه وتمييز ما صدر عنه بوصف الإمامة فهي "وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء"([3])، وهذا التفريق ثم التمييز قائم على أمرين:

الأول: أن أمور السياسة والإمامة لم يقطع فيها كما قطع في غيرها فـ "معظم مسائل الإمامة عرية عن مسلك القطع، خلية عن مدارك اليقين"([4]) على لغة إمام الحرمين الجويني، وبالتالي فهو التوجيه والضبط وليس التحديد والحسم.

الثاني: أن اختصاص الإمام دنيوي في شقه الأبرز فـ "هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق وضبط معاقد المصالح ودرء المفاسد وقمع الجناة وقتل الطغاة وتوطين العباد في البلاد"([5]) على لغة شهاب الدين القرافي.

وقد أوضح الإمام النووي الأمر في تبويبه لحديث تأبير النخل ونحوه عندما بوب: "باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي".

إذن نحن نؤسس للنظرفي مجال مفتوح وصفه صاحب الإحكام (القرافي): "وأن تصرف الإمامة الزائد على هذين (يعني الفتيا والقضاء) يعتمد المصلحة الراجحة أو الخالصة في حق الأمة، وهي غير الحجة والأدلة"([6]).

ورحم الله ابن الحداد "السياسة سياستان، سياسة الدين وسياسة الدنيا، فسياسة الدين ما أدى إلى قضاء الفرض، وسياسة الدنيا ما أدى إلى عمارة الأرض"([7]).

والعمل في هذا المجال قائم على قاعدة الإمكان وتقدير الأحوال وتصور المآلات خصوصا في واقع اضطربت أحواله وكثرت تحدياته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"وأصل هذا أن الله جلّ وعزّ بعث الرسل لتحصيل المصالح وتكميلها بحسب الإمكان، وتقديم خير الأمرين بتفويت أدناهما، والله سبحانه حرم الظلم على عباده وأوجب العدل فإذا قدر ظلم وفساد ولم يمكن دفعه كان الواجب تخفيفه وتحري العدل والمصلحة بحسب الإمكان"([8])،وهذا الإمكان للحاكم أو نحوه فكيف بالساعي إلى الحكم  والعامل من أجله.

ولعل حوار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مع ابنه يوضح هذا المسلك: قال ابن عبد الحكم: "لما ولي عمر بن عبد العزيز رحمه الله، قال ابنه عبد الملك: إني لأراك يا أبتاه قد أخرت أمورا كثيرة كنت أحسبك لو وليت ساعة من النهار عجلتها، ولوددت أنك قد فعلت ذلك ولو فارت بي وبك القدور. قال له عمر: أي بني، إنك على حسن قسم الله لك وفيك بعض رأي أهل الحداثة، والله ما أستطيع أن أخرج لهم شيئا من الدين إلا ومعه طرف من الدنيا أستلين به قلوبهم خوفا أن ينخرق علي منهم ما لا طاقة لي به"([9]).

وفي الرواية التي أوردها الإمام الشاطبي عن هذه المحاورة: "لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه جملة ويكون من ذا فتنة"([10]).

ويطرح موضوع التغيير إشكال السبيل والطريق وأين القوة في ذلك، ولعله من المفيد التوضيح أن منهج الإسلام ابتداء منهج تسامح ولين وحكمة بذلك نطقت الآيات وعليه أكدت الأحاديث: "ادْعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهُم بالتي هي أحسن إنَّ رَبّكَ هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلمُ بالمهتدين"، "ولا تسْتَوي الحسَنةُ ولا السيّئة ادفعْ بالتي هي أحسَنُ فإذا الذي بينكَ وبينهُ عداوة كأنه وليٌّ حميم"، وفي حديث عبادة بن الصامت: "قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع الدرجات؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: تحلم على من جهل عليك وتعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك"، ولا ينعني التأكيد على معاني السلم والتسامح أن الإسلام لا يعتبر القوة ولا يدعو لإعدادها .."وأعِدّوا لهُم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيْل تُرهبون به عدوَّ اللهِ وعدُوّكُمْ وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمُهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظلَمُون".

لكن هذه القوة للحراسة والضبط والردع لا للعنف والإكراه والتسلط، للعدل والقسط لا للاعتداء والإيذاء والحيف، وكان ذكر الحديد بعد القسط هدف الكتاب والميزان دالا في هذا السياق:"لقد أرسَلنا رُسُلنا بالبينات وأنزَلْنا معَهُمُ الكتابَ والميزَانَ ليقومَ النّاسُ بالقِسْطِ وَأنزَلْنا الحَديدَ فيهَ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافعُ للنّاسِ ولِيَعلم الله من ينصُرُهُ ورسُلَه بالغيب إن اللهَ قويٌّ عزيز".

وقد نسب جودت سعيد كلاما لشيخ الإسلام في هذا السياق:"إذا كان الكتاب فوق السيف فهو الإسلام وإذا السيف فوق الكتاب فهو المنكر"([11]).

ولا شك يُطرح -عند الحديث عن القوة- موضوعُ الخروج على الحاكم الظالم أو المنحرف وهو موضوع تعددت المدارس فيه بين مجيز ومانع ومفصل .. وبشيء من التحقيق يتضح أن مآلات محاولات الخروج في مراحل الملك العاض أثرت على ما استقر عند العلماء في هذا الصدد.

قال بن حجر في ترجمة الحسن بن صالح: "وقولهم: كان يرى السيف يعني: كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور وهذا مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه، ففي وقعة الحرة ووقعة ابن الأشعث وغيرهما عظة لمن تدبر"([12]).

فالمشكلة في النتائج والمآلات وذلك ما جعل شيخ الإسلام ابن تيمية يقرر: "استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم"([13]).

ولكن إمام الحرمين يضع حدا لهذا الصبر عندما يقول: "وهذا كله في نوادر الفسوق، فأما إذا تواصل منه العصيان وفشا فيه العدوان وظهر الفساد وزال السداد وتعطلت الحقوق والحدود وارتفعت الصيانة ووضحت الخيانة واستجرأ الظلمة ولم يجد المظلوم منتصفا ممن ظلمه، وتداعى الخلل والخطل إلى عظائم الأمور، وتعطيل الثغور، فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم على ما سنقرر القول فيه على الفاهم إن شاء الله عزّ وجلّ، وذلك أن الإمامة إنما تعني لنقيض هذه الحالة"([14]).

ومن هنا فإنه لا بأس ببعض الخلاصات نضمنها أهم الاختيارات:

  1. التغيير مطلب وهدفه الإصلاح والعدل، وواضح أن شرط الإمكان قائم وضابط الاستطاعة والفائدة معتبر "الأمر والنهي الذي يسميه بعض العلماء التكليف الشرعي هو مشروط بالممكن من العلم والقدرة"، مجموع الفتاوى (10/345).
  2. أن هناك شروطا وضوابط لاستعمال القوة .. وأنها طارئة والأصل فيها الحماية والردع وأن الأفضل والأسلم والأنجع والأصلح هو طريق الحكمة وسبيل الرفق.
  3. أن قاعدة الخروج على الحكام الظلمة واضحة وأن مآل الأمور هو الذي حكم الحظر وأن الإمام الظالم لا يفضل إلا الفتنة الدائمة. قال عمرو بن العاص رضي الله عنه لابنه: "يا بني احفظ عني ما أوصيك به، إمام عادل خير من مطر وابل، وأسد حطوم خير من إمام ظلوم، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم"([15]).

ولكن سُبل المعارضة والخروج السياسي تكفي وتغني ولها تأصيل في حديث عبادة بن الصامت: "بايعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهلَه، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومةَ لائم"أخرج الشيخان.

ولابن عبد البر كلام في أهله هذه: "فقد اختلف الناس في ذلك، فقال القائلون منهم أهله أهل العدل والإحسان والفضل والدين مع القوة على القيام بذلك، فهؤلاء لا ينازَعون لأنهم أهله، وأما أهل الجور والفسق والظلم فليسوا بأهل له"([16]).

والحالات التي لا تسيغ فيها المعارضة والخروج السلمي والتي تفرض خيارات أخرى لا تصلح للتعميم ولا يناسب أن تكون قاعدة مضطردة.

ثانياً: التغيير: حديث في الظروف:

لم تكن الحركة الإسلامية في بداية انطلاقتها محددة المعالم وإن لم يخف منزعها المتعلق بالإصلاح والتغيير السياسي غير أن الصفة الإسلامية العامة وأولوية الدعوة والإصلاح الاجتماعي خففت من مسألة التغيير وتداعياتها، ولكن الأمر لم يطل كثيرا حيث بدأ المعنى السياسي يظهر في صور متعددة وبدا السؤال يطرح: أي طريق للوصول إلى الأهداف.

وكان الإمام حسن البنا واضحا في أنه ليس في عجلة من أمره: "إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات، ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتثبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله"([17]).

وللقوة وإعدادها حضور واضح في رؤية الرجل ولكنه كان حذرا منذ البداية فبعد أن مهد لأهمية القوة وتأصيلها استدرك قائلا: "ولكن الإخوان المسلمين أعمق فكرا وأبعد نظرا من أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر فلا يغوصوا إلى أعماقها ولا يزنوا نتائجها وما يقصد منها وما يُراد بها"([18]).

ولعل هذا العموم الذي يظلله بعض الغموض هو الذي أنتج تجربة النظام الخاص التي كان البنا يعرف الهدف منه ويضبط إيقاع تحركه ولكن الأمر لم ينضبط في آخر عمره واستفحل بعده.

ظل موضوع سبيل التغيير في دائرة رمادية منذ ذلك الحين، فلا الإسلاميون قطعوا مع القوة ولا واضحون في تبنيها، ولكل بلد حالته من الجماعة الإسلامية في باكستان حيث الزهد في الموضوع ورفضه إلى الحركة الإسلامية في السودان التي أتت بانقلاب عسكري أوصلها إلى السلطة، والحالات تتباين والتجارب تتعارض وربما تتناقض، وطرح الانتقال منمرحلة الدعوة إلىمرحلة الدولة السؤال من جديد وإن ظل الفكر قابلا لوسيلة القوة والممارسة الفعلية في أغلب الأحيان تقيدها أو تلغيها.

وكان بروز جماعات الغلو والعنف سببا في تجدد النقاش وكان واضحا عند كبار مفكري الإخوان المسلمين أن الأمر خطأ وخطر واعتبروا أن إشارة حديث مسلم إلى هؤلاء تتوجه ".. ومن خرج على أمتي يضرب برَّها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه" رواه مسلم.

وقد وصف الدكتور يوسف القرضاوي هذه الجماعات قائلا أنها "كثيرا ما تعتمد على المتشابهات وتدع المحكمات، وتستند إلى الجزئيات وتهمل الكليات، وتتمسك بالظواهر وتغفل المقاصد"([19])، وللشيخ محمد أحمد الراشد فيهم كلام:"ومن شهادة الوقائع للفكر: المتاهة التي دخلها الشباب المسلم المتحمس عبر التفجيرات وهواية إطلاق الرصاص على شرطي أو سائح، وظنون ابن لادن أنه ينهك أمريكا ويركعها إذا أذاها -إلى أن يخولص- ولعرفوا أن المشروع الحضاري الإسلامي أجزل وعودا وأكثر أملا، وهو بطيء لكنه نافذ، وسلمي لكنه حاسم"([20]).

إن فقه التغيير اليوم عند الحركة الإسلامية قد عرف إسهامات عديدة وطرحت الأسئلة الأولى وكان لا بد من الاختيار، وقد ساعدت التجارب التي أصبحت أعمارها بمستوى يسمح بالتقويم وبالمراجعة على تحديد هذا الاختيار.

لقد حدد الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه القيم (فقه الجهاد) وسائل التغيير في ثلاث:([21]) القوات المسلحة، المجلس النيابي (الانتخابات)، قوة الجماهير الشعبية العارمة. ثم يعلق "فمن لم يملك إحدى هذه القوى الثلاث، فما عليه إلا أن يصبر ويصابر ويرابط حتى يملكها أو يملك إحداها، وعليه أن يغير باللسان والقلم والدعوة والتوعية والتوجيه"([22]).

وعلى المستوى العملي نجد أنفسنا أمام أربع تجارب رئيسية في المجال السني، حتى لانشغل الحضور بنقاش آخر حول التجارب خارج هذا المجال تجعل الظروف الحالية نقاشها يفـتقد الموضوعية والتوازن نظرا للشحن الحاصل والاصطفاف القائم:

  • الوصول إلى السلطة عن طريق القوة العسكرية، أي الانقلاب، وهو حال السودان.
  • الوصول إلى السلطة عن طريق التراكم والسبيل الديمقراطي، وهو حال تركيا.
  • الوصول إلى السلطة إثر ثورة شعبية أعقبها انتقال ديمقراطي، وهو حال دولتي الربيع (مصر وتونس).
  • المشاركة في السلطة وقبول جزء منها وأدنى ذلكدخول حكومات في ظروف تغلب فيها أحادية السلطة: (الأردن، اليمن، الجزائر، ...) أولها خصوصية المنطقة: (إندونيسيا، ماليزيا، ...) وأعلاه قيادة الحكومة في بلد معروفة سقوفه وحدوده (حالة المغرب).

فالتغيير هنا تحدد في معناه السياسي وذلك لجوهرية دور السلطة وحجم تأثيرها على جوانب الحياة الأخرى كما يشهد التاريخ والحاضر.

  • والظاهر -والله أعلم- أن تجربة التغيير بالقوة (السودان) أسرتها قوانين القوة وكلفة طريق الوصول، ومهما التمسنا من المخارج والأعذار وبررنا بحجم التآمر والاستهداف فإن هذه التجربة أقرب إلى الفشل منها إلى النجاح، والصورة تغلب سلبياتها إيجابياتِها سواء على مستوى ألق النموذج أو رضى الناس أو إقامة العدل وتحقيق الإصلاح، وآلمني قول أحد الإخوة السودانيين أنه لو أتيحت في السودان اليوم حرية حقيقية للفظهم الناس.
  • والظاهر أيضا أن تجربة التغيير بواسطة الثورة ثم الانتقال -رغم قصر الفترة على الحكم عليها وتقويمها- عانت من ضعف الاستعداد وشيء كبير من اختلال ميزان القوة، وكان لمستوى الفكر السياسي وتردده -في مصر مثلا- أثر سلبي لا يخفى، صحيح أن انقلاب الثورة المضادة عاجل الحالة المصرية، وصحيح أن التكيف في الحالة التونسية قلل الخسائر وأخذ أصحابه شيئا من نفس التراكم ومنطق الانتظار بعد قومة ثورية حاصرها الإقليم وخذلها ميزان القوة.
  • والظاهر ثالثا أن تجربتي المشاركة الجزئية والوصول المتراكم بالسبيل الديمقراطي، كليهما أقل كلفة وأسهل استيعابا وأكثر مقبولية عند عامة الناس مع ما يوفرانه من جو التطور وفرص المراجعة والتصحيح ... فنحن نبني مشروعا ونتصور مخرجات تجمع الأصول التي منها ننطلق وبها نلتزم، والواقع والدولة الحديثة بكل التعقيدات والتحديات المصاحبة والنجاح ليس تلقائيا، وأن يجد الفكر فرصته ليتطور مع الممارسة ويجد النظر جوا يساعده على التجديد ومسايرة أسئلة العصر وإشكالاته، ومن أهم شروط ذلك السلم لا الصراع والهدوء لا الاستفزاز والعلاقة مع الآخر لا الإدبار عنه وعيش التجربة والواقع لا التعلق بالمثال ..

سيقول قائل -وحق له ذلك- وهل نترك لنخوض هذه التجربة؟ والجواب أن ذلك في جزء معتبر منه يعود إلينا وإلى طريقتنا في إدارة التدافع وتقدير الأحوال وحساب المآلات وعلى كل حال عدد من التجارب أوضح أن الأمر ممكن وسائغ رغم استهداف الأعداء وتطرف بعض الخصوم.

خــروج:

لقد طغى موضوع الدولة والحكم أكثر من اللازم على منطق كثير من الحركات الإسلامية فجعلوه الأساس وأحيانا تقدموا لهذه المسؤولية دون الاستعداد الكافي ولا اجتماع الشروط المناسبة، والأمر يحتاج مراجعة على المستويين الفكري والعملي ..

لقد ناقش د. جاسم سلطان الموضوع بشيء من الاستفاضة وساءل مختلف جوانبه وخلص إلى القول: "إن منبع كل ذلك واحد، وهو أصل الدين دعوة أم سيطرة بلاغ وبيان أم هيمنة وسلطان"([23]).

لا يزهد هذا في مسألة السلطة فنحن نعلم أن "الدين أساس والسلطان حارس وما لا أساس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع" على لغة حجة الإسلام الإمام أبي حامد الغزالي .. ولكن المشكلة هنا هي الزهد في الأساس والتركيز كل التركيز على الحارس ..

إن إعادة الاعتبار لهذا المعنى في فكر الحركة الإسلامية ضرورة واستحقاق حتى يتوازن النظر ويخف هذا الولع المبالغ فيه بالسلطة والسيطرة، هذا من حيث المبدأ، أما شروط الإمكان ومتطلبات الاستعداد فأمر آخر، وقد أحسن الشيخ محمد أحمد الراشد حين تصورها: "إن التقدم الموزون الانتقالي من مرحلة النشأة إلى مرحلة الانسياب لا بد له من شروط أربعة: تواجد يكفي وظرف يواتي ومجتمع يرحب ومركب يحمل"([24]).

هذا عن مرحلة الانسيابفماذا عن مرحلة التغيير والسلطة، سيتوسع معنى التواجد الكافي ليصبح نفوذا مقدرا، ومعنى الظرف المواتي ليصبح محيطا متقبلا والمجتمع المرحب ليصبح مجتمعا داعما والمركب الحامل إلى ميزان قوة راجح.

ليس الهدف من هذا الحديث تكثيف الشروط أو إضعاف الأمل في التغيير والوصول ولكنها التجارب ودروسها والموازنة والتقدير وما يتطلبانه. ثم إن للسلطة منطقها ولطريقها طبيعته،"إذ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلّ على الإمامة في كل زمان"([25]) كما يقول مؤرخ الفرق محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، ونحتاج في فقهها أن نأخذ الوقت لننتقل بالناس من فقه السياسة الشرعية الذي كان في جزء كبير منه -انطلاقا من دعوة د. محمد الشنقيطي- وربما غلب تشريعا لحال سابق أو متعين إلى فكر الشرعية السياسية الذي يبحث في الأسس ويحسم في أصل الشرعية قبل سياسة الممارسة.

إننا نريد أمراً عظيما ومجالاته محددة والتجارب فيه شاهدة، تجتمع الأصول واستحقاقات الظروف ومقتضيات الحاجة للتجويد وحسن التأسيس على أن نختار طريق التكامل والتدرج في مسار نطرق فيه الأبواب المتفرقة وندرك فيه أن القوة ملازمة للحق تردع عنه وتحميه ولكنها لا تفرضه، نفضل الطريق إلى القلوب والعقول فالأولى تخاطبها الدعوة والثانية يخاطبها الفكر والمشروع السياسي،والانتظار المرتب ليس تلكؤاً؛ إنه الانتظار الإيجابي، والتجميع الهادئ ليسا وقوفا ولا تلكؤاُ بل تلبية لنداء الحكمة وإن لم ير الساذج والمبتدئ والجالس على التل حركة وسيراً، وإنك لترى المرجل من بعيد ساكنا لست تسمع غليانه:"وَترَى الجِبالَ تحسَبُها جَامِدَةً وهِيَ تمُرُّ مَرَّ السَّحَاب ..."([26]) كما لخص الشيخ الراشد.

التغيير مطلوب وممكن والتجارب ودروسها مساعِدة والجَمع المؤسَّس على أصل الرفق وطريقة أولى ولكن المشكلة في الاستعجال: "ولّكنَّكُم تسْتعْجِلُون".

 

 

إبرازات:

  • ولا يخفى على الدارسين أن الشورى -وهي من أهم قواعد النظام السياسي في الرؤية الإسلامية- جاءت عامة في الوحي متمايزة التطبيقات في عصر الخلافة الراشدة مما يؤكد معنى القابلية لاستيعاب الجديد مما ينفع الناس ولا يضر دينهم ولا أوطانهم
  • وبشيء من التحقيق يتضح أن مآلات محاولات الخروج في مراحل الملك العاض أثرت على ما استقر عند العلماء في هذا الصدد
  • سُبل المعارضة والخروج السياسي تكفي وتغني ولها تأصيل في حديث عبادة بن الصامت: "بايعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهلَه، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومةَ لائم
  • ظل موضوع سبيل التغيير في دائرة رمادية، فلا الإسلاميون قطعوا مع القوة ولا واضحون في تبنيها، ولكل بلد حالته من الجماعة الإسلامية في باكستان حيث الزهد في الموضوع ورفضه إلى الحركة الإسلامية في السودان التي أتت بانقلاب عسكري أوصلها إلى السلطة
  • القوة ملازمة للحق تردع عنه وتحميه ولكنها لا تفرضه، نفضل الطريق إلى القلوب والعقول فالأولى تخاطبها الدعوة والثانية يخاطبها الفكر والمشروع السياسي، والانتظار المرتب ليس تلكؤاً؛ إنه الانتظار الإيجابي، والتجميع الهادئ ليسا وقوفا ولا تلكؤاُ بل تلبية لنداء الحكمة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]) ابن عاشور، التحرير والتنوير، دار سحنون للنشر والتوزيع 1997 تونس،ج7، ص 280.

[2]) البزار والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

[3]) القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، دار السلام، القاهرة ط 5 ـ2009/ ص105

[4]) الجويني، الغياثي، دار المنهاج ـ بيروت / ط 3 ـ 2011 / ص 253.

[5]) القرافي، الإحكام، مرجع سابق، ص105

[6]) نفس المرجع السابق/ ص 56.

[7]) ابن الحداد، لجوهر النفيس في سياسة الرئيس، دار الطليعة ـ بيروت ط 1 ـ 1983 ، ص 61-62

[8]) الفتاوى،ج29 ص271.

[9]) أبو محمد عبد الله بن الحكم المصري، سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك بن أنس وأصحابه، تحقيق: أحمد عبيد، دار عالم الكتب ـ بيروت، ط 6/ 1684 ص 57.

[10]) الإمام الشاطبي،الموافقات،ج3ص148.

[11]) جودت سعيد،مذهب ابن آدم الأول/ دار الفكر المعاصر ـ بيروت / ط 5/ 1993، ص 46.

[12]) ابن حجر العسقلاني،تهذيب التهذيب/ مطبعة دائرة المعارف/ الهند ط1/ 1326 هـ (2/188)

[13]) ابن تيمية، منهاج السنة/ جامعة الإمام ط 1/1406هـ، ج4 ص529-530،

[14]) الجويني، الغياثي ، مرجع سابق،ص275-276

[15]) ابن مفلح، الآداب الشرعية والمنح المرعية/ مؤسسة قرطبة، ج1 ص 176، ونسب "سراج الملوك" هذا الكلام للإمام علي رضي الله عنه.

[16]) ابن عبد البر، لاستذكار/ تحقيق: سالم محمد، محمد علي معوض ـ دار الكتب العلمية/ بيروت ط1/ 2000 ج5 ص 16.

[17]) البنا، مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا/ المكتبة التوفيقية ـ القاهرة/ دون تاريخ/ ص 190.

[18]) المرجع السابق/ ص 199

[19]) القرضاوي، فقه الجهاد/ دار الكتب المصرية ـ بلا تاريخ/ المجلد 2، ص 1030

[20]) الراشد، منهجية التربية الدعوية، طبعة دار النشر للجامعات، القاهرة: (2010)،الطبعة الأولى، ص99

[21]) القرضاوي، فقه الجهاد/ مرجع سابق/ ص 1049-1050

[22]) القرضاوي،فقه الجهاد/ مرجع سابق/ ص 1049-1050

[23]) جاسم سلطان،أزمة التنظيمات الإسلامية، الإخوان نموذجا/ الشبكة العربية للأبحاث والنشر/ ط 1 بيروت 2015.

[24]) الراشد، المسار/ دار المنطلق ـ دبي/ ط 3، 1991/ ص 66.

[25]) الشهرستاني، الملل والنحل/ مؤسسة الحلبي، ج1 ص22.

[26]) الراشد، لمسار/ مرجع سابق، ص 44.