بقلم : سعدنا عمر
لم يهتم القرآن الكريم بشيء مثل اهتمامه بتربية الطائفة المؤمنة وغرس القيم الفاضلة في نفوس سالكي طريق الحق في كل زمان ومكان حتى لا تستوي أخلاق المؤمنين الداعين إلى الله، الطامحين إلى ما عنده بأخلاق التافهين والهامشيين الراكنين إلى الشهوات البهيمية والدعاوي الأرضية...
فرغم أن الإسلام دين العدل الذي يجعل لمن اعتُدي عليه الحقَّ في الانتقام ويقرر ذلك في أكثر من آية قرآنية، مثل قوله تعالى: (وجزاؤا سيئة سيئة مثلها) ومثل قوله: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) وقوله: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل)، إلا أنه في مقام التربية وبيان ما ينبغي أن تكون عليه الأرواح الراقية التي يحملها الدعاة إلى المنهج الرباني العظيم جاء بخلق آخر وركز عليه، مبرزا محاسنه في صيغ بلاغية بديعة، ألا وهو خلق درء السيئة بالحسنة...
لقد تعرض القرآن الكريم للحديث عن هذا الخلق بأسلوبين مختلفين، وذلك من أجل الترغيب فيه وبيان فضله:
الأسلوب الأول هو سلوب الأمر المباشر والتوجيه الصريح إلى الاتصاف بهذا الخلق العظيم، وقد ورد ذلك في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم:
- الموضع الأول في سورة الأعراف، حيث يقول سبحانه وتعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين). قال الطبري رحمه بعد استعراضه للأقوال الواردة في المراد بالعفو المأمور في الآية: "قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معناه: خذ العفو من أخلاق الناس, واترك الغلظة عليهم وقال: أُمر بذلك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في المشركين".
- ثم جاء الموضع الثاني في سورة فصلت في سياق الحديث عن الدعوة إلى الله بأسلوب الحكمة الذي ينفي المساواة بين الحسنة والسيئة، وذلك في قوله تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، وفي ظلال هذه الآية يقول البيضاوي رحمه الله: "ادفع السيئة حيث اعترضتك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة، على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقا، أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات، وإنما أخرجه مخرج الاستئناف على أنه جواب من قال: كيف أصنع؟ للمبالغة ولذلك وضع أحسن موضع الحسنة، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، أي إذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق".
- الموضع الثالث، ورد في سورة "المؤمنون" في قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ۚ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ)، وقد قال الطاهر ابن عاشور في تعليقه على هذه الآية: "والتخلق بهذه الآية هو أن المؤمن الكامل ينبغي له أن يفوض أمر المعتدين عليه إلى الله فهو يتولى الانتصار لمن توكل عليه وأنه إن قابل السيئة بالحسنة كان انتصار الله أشفى لصدره وأرسخ في نصره، وماذا تبلغ قدرة المخلوق تجاه قدرة الخالق، وهو الذي هزم الأحزاب بلا جيوش ولا فيالق".
أما الأسلوب الثاني الذي قدم القرآن الكريم به فضيلة درء السيئة بالحسنة فهو أسلوب الثناء على المتصفين بها، وقد ورد ذلك في مواضع، مثل تعالى : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّاوَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)، وقوله: (...أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).
وإذا ما نظرنا في كلام العلماء حول المعنى المراد من درء السيئة بالحسنة الوارد في القرآن الكريم نجد أنهم يحصرون ذلك في ثلاثةمعان، هي: 1المعنى الأول ينحو منحى داخليا يتمثل في التوبة إلى الله من الأعمال السيئة السابقة التي ارتكبها الإنسان في أوقات ضعفه، وهو المعنى نفسه الذي صرح به القرآن في قوله تعالى : (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من اليل إن الحسنات يذهبن السيئات). 2 المعنى الثاني يتعلق بتخلي المؤمن عن الشر بعد أن عزم عليه واقترب من الوقوع والسوط فيه.. 3 أما المعنى الثالثفإنه ينحو منحى خارجيا يتوجه إلى الغير بمقابلة سيئه بالحسن، بل بالأحسن كما تقدم.
ومع أنه لا مانع من احتمال اللفظ للمعاني الثلاثة ولا أدل على ذلك من اختلاف المفسرين حولها إلا أنني أرى -والله تعالى أعلم- أن الآياتِ القرآنيةَالمذكورة تفيد خصوص المعنى الأخير المتعلق بمقابلة إساءة الناس بالإحسان، ويمكن أن ندرك ذلك من خلال النظر في السياق الذي وردت فيه آيات درء السيئة بالحسنة، فمن تأمل الآيات وجد أنها وردت إما في سياق محاججة النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين -كما هو الحال في سورتي الأعراف والمؤمنين-، وإما في سياق الحديث عن الدعوة إلى الله -كما في سورة فصلت-، وهذان المقامان يقتضيان حصول الإساءة من أهل الشر أثناء معالجتهم والاحتكاك بهم من قبل الداعي إلى الله، فجاء القرآن موجها إلى خلق عظيم ينبغي التخلق به في مواجهة تلك الإساءات والبذاءات، وهو خلق العفو ومقابلة السيئة بالحسنة، ويؤكد هذا المعنى أن كل تلك الآيات وردت ضمن سور مكية، ومن المعلوم أن القرآن المكي كان اهتمامه بالدعوة وأساليب التعاطي مع المدعوين أكثر من القرآن المدني.
ولم يقتصر القرآن الكريم -في التنويه بهذا الخلق- على التصريح بدرء السيئة بالحسنة في المواضع السابقة، بل إنه كرر الحث عليه في آيات عديدة وبأساليب مختلفة، مثل قوله تعالى: (..والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس)، وقوله : (وإذا ما غضبوا هم يغفرون)، وقوله: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله)، وقوله: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما). إن هذا الخلق رغم أهميته وفضله إلا أنه من الصعوبة بمكان؛ إذ ليس من السهل على الإنسان حين يُقذف بالسوء ويُستثار غضبه ويتهم في صدقه وأمانته أن يتحكم في نفسه وينتقي من كلماته أطيبها ومن تصرفاته أحسنها ويهدي ذلك إلى المسيئين إليه، ولهذا قال تعالى بعد أمره بهذه الصفة: (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)، يقول سيد رحمه الله في ظلاله: "...إنها درجة عالية إلى حد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي لم يغضب لنفسه قط، وإذا غضب لله لم يقم لغضبه أحد، قيل له - وقيل لكل داعية في شخصه - : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله، إنه هو السميع العليم ..
فالغضب قد ينزغ. وقد يلقي في الروع قلة الصبر على الإساءة، أو ضيق الصدر عن السماحة، فالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم حينئذ وقاية، تدفع محاولاته لاستغلال الغضب، والنفاذ من ثغرته". إلى أن يقول رحمه الله: "إنه طريق شاق، طريق السير في مسارب النفس ودروبها وأشواكها وشعابها، حتى يبلغ الداعية منها موضع التوجيه ونقطة القياد!!!".
ختاما فإن هذا الخلق العظيم يكون مطلوبا على الوجه السابق في مواقف الاحتكاك عندما تكون الإساءة متجهة إلى ذات الشخص أو أهله أو شيء يملك حق العفو عنه...
أما إن كانت الإساءة متجهة نحو العقيدة أو منهج الدعوة إلى مقتضياتها، أو أصول الدين أو القدوات التي تطمئن إليها نفوس المؤمنين، فإن المقام حينئذ يكون مقام رد للمعتدي وإلجام له بلجام الحق وبيان لزيف منطقه ومنهجه الدنيء، يقول سيد قطب رحمه الله: "وهذه السماحة كذلك قاصرة على حالات الإساءة الشخصية، لا العدوان على العقيدة وفتنة المؤمنين عنها، فأما في هذا فهو الدفع والمقاومة بكل صورة من صورها، أو الصبر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. "